عندما كان الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان يقوم بجولة يتفقد خلالها سير العمل في بناء الجامع الأموي، لفت نظره عامل يقوم بجهد خارق حيث كان يحمل فوق رأسه أضعافاً مضاعفة عن رفاقه من الطوب والحجارة، فاقترب منه الخليفة سائلاً من أي البلاد أنت؟ فأجابه العامل أنا من العراق. فهز الخليفة الأموي رأسه باسماً: انتم أهل العراق الوحيدون الذين تتحملون الصبر ومشقاته. إنه العراق الذي يخرج دائماً من تحت الأنقاض قوياً، يفاجئ العالم بمبادراته التي لا تخطر على بال.
بالأمس استطاع اللاعب يونس محمود أن يصنع فرحة حقيقية على وجه العراقيين على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم وأعراقهم، واستطاع مشكوراً أن يُنسي العراقيين وكل الذين يحبون العراق حباً حقيقياً، قوافل الموتى والضحايا الذين يحصدهم الإرهاب الغادر في كل زاوية وفي كل شارع، من بغداد (دار السلام)، وان يرسم أملاً حقيقياً بالغد الباسم.
الحفاوة التي انتابت العراقيين مطلوبة وضرورية، لأن فرح العراق، هو فرح للمنطقة بأسرها، هذا ليس تنظيراً بل واجباً نبيلاً ينبغي أن يعمل له كل مخلص، فلقد أنهكتنا مشاهد السيارات المفخخة، وأشلاء المواطنين والأطفال في الشوارع، ومناظر الجرحى في المستشفيات الفقيرة الممتلئة بالمصابين الذين لا يجدون العلاج، ومواكب تشييع الضحايا إلى المقابر الجماعية وغيرها، فكأن العراق خلق للموت فقط، وكأن العراقي الذي كان قوياً شامخاً عزيزاً أصبح سلعة رخيصة للقتل المجاني.
اللاعب يونس محمود لحظة تسديده للكرة التي أصابت المرمى، أنهضت عراقاً جديداً من نومه العميق الذي استمر دهوراً، وأنعشت في ذاكراتنا عراقاً نابغاً بالشعر والحكمة والإبداع والقصيدة المحفورة في سويداء القلب.
بالرياضة يعود العراق حليماً هادئاً قوياً، لأنه لم يُشف العراق بالسيارات المفخخة والجيوش الغازية التي أرادت أن تحمل إليه الديمقراطية والحرية، لكنها حملت إليه الظلم والبطش ومآسي أبوغريب ومجازر الجسور والتهجير في جميع الأصقاع، فلا ضير ولا عيب إن عاد إلينا العراق.
وعدنا إليه معافى من خلال ملاعب الرياضة التي أبلى فيها رجال العراق بلاء جيداً وأعادوا الروح إلينا وإليه، هذا عراق محمد مهدي الجواهري وبدر شاكر السياب وعبدالوهاب البياتي وسعدي يوسف ونازك الملائكة.. ويونس محمود عراق الكلمة المبجلة، والقصيدة الفاتنة تلك القصيدة التي كتبها فريق المنتخب العراقي بالأمس في الملاعب على إيقاع القلوب المتعطشة لفرح مستحيل.
الفرح مطلوب للعراق وان لم يكن موجوداً علينا إيجاده بأي طريقة، ويبدو أن ليلى المريضة في العراق بدأ الشفاء يدب في شرايينها بذلك التآلف الذي أظهره المنتخب العراقي، الذي لعب مباراة رائعة رغم ظروفه النفسية والمعنوية والاقتصادية القاسية.
الانحياز للمنتخب العراقي ليس معناه تنكراً لا سمح الله للمنتخب السعودي الشقيق الذي نكن له كل التقدير، ولكن جرح العراق العميق يجعلنا نعلن هذه الحفاوة العالية لا بل الصاخبة، ففي العراق الترياق، الترياق لنا جميعاً، لأنه صمام الأمان. نريد بكل أمانة أن تنتهي مشاهد الثأر والأحقاد الدفينة في أرض الرافدين ونريد لمهرجانات الشعر أن تعود من جديد إلى ربوع الحضارة التي أنجبت الكثير من المبدعين والمفكرين.
لا نريد أن نظل نصرخ مع مظفر النواب لو أن العراق عراق.. ونموت بحسرتنا بل نريد للعراق أن يعود شامخاً كما نخيله المعطاء وكما مياه فراته العذبة. إذا كان يونس محمود قد أنسى العراقيين وأنسى محبي العراق مواكب المآتم لبعض الوقت، فإن الدعاء والأمنية من الأعماق، أن يبرأ العراق كل العراق من كل الشرور التي سكنت فيه في المستقبل القريب، وبداية واعدة لعراق جميل تملأ سماءه الأفراح والليالي الملاح.
إذا كان الخليفة الأموي وجد بالعراقي أنسانا حمالاً للمصاعب والمصائب فإننا نميل لليقين بأن العراق سيخرج من أتون الجحيم الذي وضعه فيه الاحتلال والسياسات الرعناء إلى رحاب العطاء والإبداع، والعودة إلى الساحات لكي يأخذ دوره الحقيقي والطليعي. عن صحيفة البيان الاماراتية 1/8/2007