محيط – سميرة سليمان الإعلامي عبدالله يسري التقيناه وهو غارق في عمله الإعلامي الذي يحبه كثيرا، عشقه للقراءة جعله من أوائل المشاركين في الحملة القومية لمهرجان القراءة للجميع عبر برنامج يبثه التليفزيون المصري، لكن انشغاله بالإعلام لم يمنعه من ممارسة عشقه الأكبر وهو الكتابة. أبى إلا أن يكتشف قلمه مناطق مجهولة من عالم الإبداع الواسع فقدم أولى رواياته من ملفات المخابرات المصرية ودخل حقل الجاسوسية الملئ بالألغام ليخرج علينا ب "الجاسوس 388" وهي الرواية التي أصبحت مقررة على طلبة الأدب العربي المقارن بجامعة جورج تاون الأمريكية. شبكة الإعلام العربية "محيط" حاورت الإعلامي والأديب عبد الله يسري عن كتاباته حول أدب الجاسوسية ورأيه في الساحة الثقافية والتغيرات التي طرأت عليها. محيط: كيف ولجت بوابة الكتابة الأدبية ؟ يسري: فعل الكتابة يراودني منذ زمن بعيد ولدى نية مسبقة للكتابة التي تعد مشروعي المؤجل نظرا لعدم توافر الوقت الكافي لممارستها ولأني حرصت أن أعطي نفسي الفترة الكافية لصقل ثقافتي حتى يتعتق القلم والحبر. بدأت العمل الإعلامي منذ عام 98 وبدأت كتابة روايتي الأولى التي لم أسبقها بأي تجارب قصصية من قبل عام 2005 حتى صدرت عام 2008، وتعاملت معها كما لو أنها مرحلة تالية بعد الأفلام القصيرة الوثائقية التي قدمتها من قبل، حيث شعرت أن هذه الأفلام ذخيرة لي تدعمني وتصقل خبراتي في الكتابة، ومن ثم كتبت هذه الرواية باللغة المرئية، حيث تغلب عليها الصورة أكثر من السرد. بعدها قررت أن أكتب روايتي حتى لا أكون مجرد ناقل أو معبر عن الأحداث الثقافية بصفتي إعلامي ولكن عن طريق مشاركتي في صناعة الحدث وأن أكون طرفا فاعلا فيه. محيط: لماذا اخترت البدء بأدب الجاسوسية؟ يسري: على الكاتب أن يختار موطئ قدم مميز في عالم ملئ بالإبداع، فنحن نعيش في مصر والعالم العربي زمن انفجار الرواية، ولكن معظمها يتشابه في الموضوعات والمضمون فنجد كثير منها إما يتحدث عن المهمشين، أو عن الفضح السياسي، أو العواطف والرومانسية أو الفضح الاجتماعي مثلما حدث في روايات الخليج مؤخرا مثل رواية "بنات الرياض"، وبالتالي هناك ندرة في أدب الجاسوسية، وهو يختلف تماما عن الأدب البوليسي لأنه لابد أن ينطلق من واقع ومن قصة حقيقية. ووجدت أنه بعد رحيل العملاق صالح مرسي لا أحد يكتب أدب المخابرات، ولم أخش من المقارنة معه لأن الإبداع لا يكرر نفسه، فلكل منا تميزه وتفرده وأزعم أني اختلف عن صالح مرسي وهو الأب الروحي لي وعن اللواء فؤاد حسين وهو أحد كتاب الجاسوسية المرموقين وقدم للمكتبة العربية كتبا عديدة . اختلافي عن الرائدين في أن مساحة الخيال بأعمالهما كانت في المواقف والعقدة والكتابة، ولكني رصدت من خلال روايتي لمرحلة الستينيات في مصر بكل ما فيها من أبعاد اجتماعية وسياسية وعسكرية، وحتى فنية، وهذا ما يجعل القاريء كثيرا ما يتوقف متسائلا هل هو أمام خيال أم واقع؟ ! الجاسوس الألماني محيط: ما سبب اختيارك لهذا الملف بالتحديد في روايتك؟ غلاف الرواية يسري: الجاسوس الألماني لوتز بطل الرواية أشارت إليه بعض الكتب إشارات عابرة، ولم تذكر كل التفاصيل المحيطة به، بل اكتفت بالإشارة إلى وقت مجيئه إلى مصر، وكيفية القبض عليه ومحاكمته ثم مبادلته بعد ذلك، لكن لم تذكر كيف تمت مراقبته، وكيفية حصوله على المعلومات، وطبيعة تلك المعلومات، والهدف الحقيقي من زيارته لمصر. قرأت كثيرا عنه وتحمست لهذا الملف وبدأت بالاتصال المباشر بالمصادر التي عايشت الحدث منها وكيل نيابة أمن الدولة العليا الذي قام بالقبض على الجاسوس، وأطلعت على محاضر الضبط الأصلية للقضية، وحصلت على أرشيف للصور لحظة القبض على وضمنتها الرواية وهي صور لم تظهر من قبل. كانت القوات المسلحة المصرية في هذا الوقت لديها مشروع طموح أن تملك صواريخ خاصة بها واستعانت بخبراء ألمان لمساعدتها في مشروعي صواريخ "القاهر" و"الظافر". علمت إسرائيل بالمشروع فأرسلوا لنا شخصا على أنه رجل أعمال ألماني ومربي خيول واستطاعوا طمس ماضيه القديم وخلقوا له تاريخ مختلف وواقع رائع. ولأنه رجل أعمال ثري تعرف على القادة والمسئولين وكان يجمع معلومات منهم عن طريق حفلات تضم خمور وغيرها، وأيضا عن طريق تجواله يوم الجمعة بشارع باب الحديد وهو شارع "رمسيس" الآن ليرصد حركة الإجازات في القوات المسلحة ويتابع صفوف الجيش. ثم تم الكشف عن شخصيته عبر ملاحقة ذبذبات الإرسال التي كان يرسلها لإسرائيل وتم القبض عليه وبعد معرفة تاريخه تبين أنه كان ضمن جيش شارون الذي نفذ كثيرا من المذابح. محيط: هل صادفتك أية معوقات أمنية؟ يسري: توقفت للحظات معينة وقلت أن هذا العمل لن يخرج للنور إطلاقا، نظرا للمخاطر التي قد تعتري مقابلة بعض المصادر، كما أنه كان يتحتم علىّ الحصول على موافقات معينة من بعض الجهات، ومراجعة محتوى الكتاب، حتى تأخذ الرواية في النهاية ختما رسميا بأن كل ما جاء بها حقيقي، ويعبر عن الرأي المصري بشأن هذا الجاسوس. وحدثت مفارقة غريبة فقبل انتهائي من الرواية بشهرين، قامت إسرائيل بعمل فيلما تسجيليا عن هذا الجاسوس به عدد من الأخطاء والتشويهات لكثير من الحقائق وتم عرضه في مهرجان لندن 2007، وروايتي تعد ردا رسميا مصريا على هذا الفيلم وعلى حقيقة ما حدث في تلك الفترة. محيط: ما أجمل تعليق سمعته بعد صدور روايتك؟ يسري: جاءني أجمل تعليق من اللواء محمود خلف وهو رجل مخابرات حربية من الطراز الأول، وتمكن من الإمساك بأكثر من 48 قضية تجسس ولذلك لُقب ب "صائد الجواسيس"حيث قال لي أن روايتك هذه تعد أهم عمل في أدب المخابرات بعد رأفت الهجان لصالح مرسي. محيط: إلى أي مدى يلقى أدب الجاسوسية رواجا؟ يسري : هذا النوع من الأدب له رواج كبير في الغرب ومطلوب جدا لأنه يحمل بمضمونه كشف وفضح وتشويق وإثارة، ولا يزال أي عمل يكتب في هذا الشأن يحول إلى السينما بعدها بفترة وجيزة، مثلما حدث مع "شيفرة دافنشي" لمؤلفها دان براون. أما في الوطن العربي فالوضع مختلف لأن هذا الأدب لا يجد الرواج المطلوب لأن الذائقة العربية لم تتعود عليه، ولم تتعود أن يكون هناك نوع من لعبة الذكاء بين القارئ والمؤلف. ورغم ذلك فأنا لا أنشغل بمسألة البيع والرواج للأعمال الأدبية، وأحاول تقديم مادة إبداعية حقيقية لا أن يتحول قلمي إلى سلعة . في النهاية أكتب ما يمليه عليّ خيالي ومسئوليتي وضميري، والحكم للقارئ وللجمهور. محيط: هل ترى أن أدب المخابرات صناعة ثقيلة؟ يسري: نعم، فهو صناعة مضنية أهم عقباتها الحصول على المصادر، لأن قانون المعلومات في مصر يسمح بتداولها بعد مرور من 35 إلى 50 سنة على الحدث وهو عائق كبير يحتاج لسعة إطلاع وخبرة وثقافة للتغلب عليه. أيضا أدب المخابرات يحتاج أن يكتب عنه شخص سافر كثيرا لأن أمكنة الرواية متعددة فروايتي تضم أماكن بدءا من تل أبيب حتى باريس، لندن، ميونخ، والقاهرة. ليالي غزة محيط: حدّثنا عن الصحفي الخائن؟ الشيخ أحمد ياسين يسري: هي قصة قصيرة عن أزمة فلسطين في الوقت الحالي، وهي تندرج أيضا تحت مسمى أدب الجاسوسية. أتحدث فيها عن الخائنين الموجودين في الصف الفلسطيني سواء من فتح أو حماس، وأوضح من خلالها أن بيئة الاحتلال صنعت جواسيس اخترقوا الصف الفلسطيني وأصبحت إسرائيل تعتمد عليهم في الحصول على معلومات يتم من خلالها التخلص من العناصر الفدائية الفلسطينية بأساليب متنوعة. تتحدث القصة عن أحد الخونة في فلسطين وهو شاب كان يعمل مراسلا لمركز دراسات بسنغافورة، واكتشف بعد فترة أنه يراسل بهذه التقارير جهاز الأمن الإسرائيلي، وبعدها تم الإيقاع به ومساومته على إمدادهم بالمعلومات بطرق جديدة ومتطورة، والعمل على تجنيد الشباب ثم التخلص منهم في النهاية. التقى هذا الشاب بالشيخ أحمد ياسين وخالد مشعل والرنتيسي وكل رموز المقاومة لحركة حماس الذين وثقوا به، وكان ينقل كل اجتماعاتهم لجهاز الأمن الإسرائيلي. ولهذا من المفترض وجود جهاز فلسطيني للأمن الوقائي لمكافحة التجسس، وأن يكون هناك تعاون بين أجهزة الأمن والمخابرات العربية والاستخبارات الفلسطينية لمكافحة الجواسيس الذين يخترقون الصف الوطني الفلسطيني بسهولة. ولنذكر إعلان إسرائيل ثلات ساعات لإيقاف إطلاق النار أثناء حرب غزة الأخيرة، لم يكن ذلك لدوافع إنسانية كما زعمت إسرائيل بل لأن هذه الساعات كافية لحركة الجواسيس وتزويد العدو بالمعلومات الكافية، وحول هذا الموضوع كتبت أيضا قصتي "من ليالي غزة". محيط: كيف تقيّم الساحة الثقافية الآن؟ يسري: الساحة الثقافية الآن تشهد حراكا ثقافيا، وتعد مصر أكثر الساحات الثقافية العربية نشاطا، وذلك بسبب حرية التعبير التي نلمسها بالإضافة إلى وعي الأجيال الجديدة واتصالها بثقافات مختلفة ووجود مؤسسات غير رسمية ثقافية تجتذب الشباب مثل ساقية الصاوي، ومسرح روابط. لكن ينقص الساحة الثقافية الاهتمام بالكيف والاهتمام بالقيمة الحقيقية لما يقدم، فيجب لنا وقفة نقيّم من خلالها ما تم تقديمه وننقده بصدق لنحصل على مواطن له ذائقة سليمة وذوق رفيع. بين السياسة والفكر محيط: يقول نزار قباني في قصيدة له "متهمون نحن بالإرهاب إذا اقترفنا مهنة الثقافة"..إلى أي مدى تتفق مع هذه العبارة؟ يسري: مرحلة الشاعر الكبير نزار قباني ولت بلا عودة، ففي زمنه كان الشاعر يكتب قصيدة فيسجن بعدها بأسبوع، هكذا حدث مع محمود درويش وغيرهم من الشعراء.
لكن الموضوع الآن اختلف فحتى السياسة أصبحت تعتمد على دبلوماسية الثقافة في تمرير الاتفاقيات، وتنقية الأجواء، وإقامة علاقات متعددة مع الدول وبعضها، فأصبح ما يجتمع عليه الشعوب هي الفنون والثقافة. أيضا الإرهاب في زمن نزار كان سياسيا، لكنه الآن أصبح دينيا إلى حد كبير وهو موضوع يشغل عددا من المثقفين، فلدينا عداء كبير تجاه الآخر وعدم قبول له، وأخذ مواقف مسبقة منه، كل هذا يجعل هناك نوعا من الإرهاب الفكري واللفظي. المجتمعات العربية كلها متجهة نحو مزيد من التحفظ ولكنها تعاني في الوقت ذاته من غياب الوعي وهذا هو مسئولية الكتّاب الحقيقيين ، وأرى أن تنامي بعض التيارات الدينية في العالم العربي له عدة أسباب أهمها شعور المواطن العربي بالاضطهاد وعدم العدالة على مستوى العالم، والتعامل معه بامتهان من المجتمعات الغربية، ولعل إدارة بوش السابقة كانت سببا لظهور التيارات الإرهابية في العالم. وأنا أتحسس مسدسي عندما يطرح موضوع الإرهاب الفكري، ولكني أؤكد أن أي ديانة سماوية لا تدعو للإرهاب خاصة الدين الإسلامي الحقيقي، والتاريخ يؤكد لنا عبر القرون أن الدين الإسلامي هو أعظم دين عرفته البشرية في التحاور والتسامح، فنجد أن الخليفة المسلم كان لديه وزير مسيحي ويهودي. محيط: لمن يقرأ عبد الله يسري؟ يسري: أقرأ لكل من على الساحة الثقافية، الكبار والصغار فأنا شغوف بالقراءة بصفة عامة فهي خبز وزاد، وتأثرت كثيرا بالأديب الألماني باتريك زوسكيند، ودان براون، واحترم كتابات علاء الأسواني، جمال الغيطاني، حسين عبد الرحيم وروايته "المستبقى"، فضيلة فاروق الجزائرية، أحلام مستانمي، وأستاذي الأول هو الأديب المصري بهاء طاهر وهو معلم مرموق يخجلك بتعامله الراقي الإنساني الذي لا يختلف عن إبداعه. محيط: هل أصبحنا نعيش زمن الرواية؟ يسري: نحن نعيش زمن الرواية التي تعطي رؤية عميقة وحقيقية عن واقع العالم العربي، فالشعر في السابق كان ديوان العرب الذي يسجل مآثرهم وأفراحهم، أما الآن فالرواية هي التي تؤرخ وتحكي كل التفاصيل عن الفترة الزمنية التي نعيشها الآن. محيط: ما هو مشروعك الأدبي المقبل؟ يسري: أحضر مجموعة قصصية عن أدب الجاسوسية، بالإضافة إلى نص روائي أكتب فيه منذ عامين وهو خليط من الجاسوسية والرومانسية، فأدب الجاسوسية مشروعي في الكتابة لن أتخلى عنه.