سمير درويش أكتب في بداية يناير 2012، بينما الساحة تشهد تجاذبًا قد يغير الأساس الذي بنيت عليه: من ناحية يحاول الثوار حشد الجموع للخروج إلى الميادين في 25 يناير لفرض شروط الثورة التي سرقها المجلس العسكري لمصلحة نظام مبارك الذي ينتمي إليه، ومن ناحية أخرى بدأ العسكر في إطلاق حملة تهدف إلى ترهيب المحايدين، "حزب الكنبة" كما يسمونهم، جيَّش لها الإعلام المرئي والمقروء، بدعوى أن مؤامرةً كبرى تحاك بهدف "إسقاط الدولة"، وإلصاق ذلك ب"البلطجية"، الذين يتقاضون أموالاً من جهات مشبوهة، دون أن يقدم أحدٌ دليلاً على هذا. لذلك فإن الساحة ما تزال مفتوحة، حيث كل طرفٍ غير راضٍ عن ما توصل إليه مقابل ما قدمه من تضحيات. كما أن نجاح ثورة في مصر ليس بالسهولة التي تصورناها، فمصر ليست تونس! لأن حجم الصراع حولها أكبر بما تملكه من تأثير على محيطها العربي بما فيه من آبار نفط. وعلى الذين لا يستوعبون ذلك أن يستمعوا إلى المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي الذي قال: "ستبذل أمريكا- وحلفاؤها- قصارى جهدها لمنع ديمقراطية حقيقية في العالم العربي، والسبب بسيط جدًّا، فالغالبية العظمى في المنطقة تعتبر أمريكا مصدر التهديد الرئيسي لمصالحها، بل إن أغلبية المعارضة لسياسات أمريكا الخارجية تعتقد أن المنطقة ستكون أكثر أمنًا إذا امتلكت إيران أسلحة نووية، تبلغ هذه النسبة في مصر- وهي أهم دولة- 80%، البعض يرى في إيران خطرًا- حوالي 10%- ومن ثم فإن أمريكا- وحلفاءها- لا تريد حكومات تعبر عن إرادة الشعوب، فلو حدث هذا لن تخسر أمريكا سيطرتها على المنطقة وحسب، بل أيضًا ستُطرد منها. ماذا عن مصر- يواصل تشومسكي- وهي أهم دولة وإن لم تكن مركزًا رئيسيًّا لإنتاج النفط؟ حسنًا، في مصر وتونس والدول المماثلة توجد خطة للعبة يتم تطبيقها نمطيًّا ولا تحتاج عبقرية لفهمها، فإن كان لديك ديكتاتور مفضل يواجه مشاكل فقف بجانبه حتى آخر مدى، وعندما يستحيل الاستمرار في دعمه لأي سبب، فقم بإرساله إلى مكان ما، ثم قم بإصدار تصريحات رنانة عن حبك للديمقراطية، ثم حاول الإبقاء على النظام القديم ربما بأسماء جديدة". أولاً- صور الثورة 1- نقط التماس: يوم الثلاثاء 25 يناير 2011 لم يكن أحد في مصر يتوقع أن تبدأ بشائر الزلزال، حتى الذين صنعوه! كنت أتابع الحشود التي تحاول دخول الميدان- من كل اتجاهاته- عبر قناة الجزيرة، وأراقب جنود الأمن المركزي المتحصنين وراء دروعهم يحاولون أن يضبطوا أنفسهم، والمتظاهرين يهتفون "سلمية/ سلمية" ويمنعون من تغلبه حماسته ويقترب من الجنود، كنت أراقب "نقاط التماس"، وقرأت ما تقوله الصورة الأولى: من وجهة نظر الأمن هي فورة غضب وستنتهي (لأن مصر ليست تونس!)، لذلك كلما حافظوا على الأرواح ساهموا في انقضاء اليوم على خير ليعود الغاضبون إلى بيوتهم. أما الناشطون فقد فوجئوا بأعداد البسطاء الذين تركوا طوابير الخبر وانضموا لهم، ولون الغضب الذي يكسو الوجوه السمراء.. ولم تكن لديهم خطة سوى النموذج التونسي، نموذج: "ارحل" و"الشعب يريد"! بعد انتصاف الليل دخل الخطأ الأول على مكونات الصورة، فانقضَّت قوات الأمن على المجموعات التي ما تزال ساهرة في الميدان تفكر في الخطوة التالية، وأجبرتهم على مغادرته بالعنف، مستخدمة وسائلها القمعية، ربما كان في ذهن الأمن أن العاطفة التي حرَّكت الناس في الشوارع تم تفريغها عبر الهتاف طوال النهار، وأنهم لن يعودوا مرة أخرى. وقتها كنت أترقب، وملايين غيري، تصورت أن الشباب سيتراجعون إلى الشوارع المتفرعة من الميدان، تراجعًا تكتيكيًّا، للعودة إليه مرة أخرى محملين بجراحهم التي تراكمت عبر سنوات، المفاجأة أن ذلك قد حدث بالفعل، فقلت: إنها الثورة إذن! 2- نزول الجيش: مساء الجمعة 28 يناير كان بالميادين فئتان من الناس: النشطاء الذين بدءوا في صياغة شعارات الثورة وتطويرها، من: "عيش.. حرية.. كرامة إنسانية"، إلى "باطل" و"ارحل" و"الشعب يريد إسقاط النظام"، وبسطاء يرددون خلفهم، أو يلتقطون منهم ويقولون، لكن ليس لدى أيهما تصور عن القادم! لذلك حين التقطتْ الكاميرا صورة أول مدرعة تعبر ميدان عبد المنعم رياض متجهة إلى التليفزيون، بعد يوم دامٍ من المعارك انهزمت في نهايته قوات الأمن المركزي، رأيت صورة المغبرين يوسعون لها الطريق، ويصفقون، ويهتفون: "الجيش والشعب إيد واحدة" بالتصور التونسي، الذي بمقتضاه لا بد أن ينحاز الجيش لثورة الشعب ويجبر الرئيس على الخروج إلى السعودية: "يا سوزان قولي لمبارك/ فندق مكة في انتظارك"! (التقط المجلس العسكري هذا المشهد بخلفياته وبدأ ثورته المضادة كما سأبين) النشطاء أدركوا خطورة هذا التصور لأنهم لا يثقون في المجلس العسكري- منذ البداية- باعتباره جزءًا من النظام الذي يريدون إسقاطه، لكنهم يعرفون أيضًا أن البسطاء هم من يعطي للحدث زخمه، وبالتالي ليس من السهل إيقافهم، ولا الإعلان عما يخالف عقيدتهم، فقرروا أن يلعبوا اللعبة رهانًا على شيئين: الأول طيب، وهو أن يجبروا المجلس على السير في الاتجاه الذي خرجوا من أجله، والثاني سيئ، وهو أن يضطروا هم إلى مواجهة ثانية معه، تحتاج إلى ترتيب آخر. 3- موقعة الجمل: التحالف الشيطاني ذو الأضلاع الأربعة "السلطة والمجلس العسكري والإعلام ورجال الأعمال" أعدوا سيناريو القضاء على الثورة من أربع خطوات: الأولى خطاب رومانتيكي مؤثر يلقيه الرئيس مساء أول فبراير، يصنع حالة من التعاطف لدى البسطاء- وقود الثورة- ثم تعمل الآلة الإعلامية في الليلة نفسها بنشاط لترويجه عبر جيش "المحللين الاستراتيجيين" المتعاونين، ثم يقوم رجال الأعمال بإطلاق "بلطجية" يستأجرونهم للفتك بشباب "الفيس بوك" المرفهين في صباح اليوم التالي 2 فبراير، ويكون على الجيش أن يفسح لهم، ثم يقف ليراقب عن بعد بدعوى الحياد! لقد رأيت بعينيَّ تفاصيل تدبير الهجوم منذ الظهيرة: الرءوس المدبرة واقفة في أماكن قريبة من الميدان تراقب وتوجه، باصات تحمل موظفي شركة الكهرباء من 26 يوليو وبالتأكيد من أماكن مشابهة، سيارات نقل تحمل بلطجية في شارع الجلاء، ووفود قادمة من مصطفى محمود عبر كوبري 15 مايو.. كلهم يحملون أسلحة بيضاء وصور الرئيس، يحتكون بالمارة بعنف ويسبون د.محمد البرادعي "عميل الأمريكان!"، تجمعوا خلف الحواجز التي يقيمها الجيش في مداخل الميدان، وفي لحظة واحدة انطلقوا داخلين. في الصباح الباكر رأيت سيدة على محطة مترو سراي القبة تضرب صندوق المهملات بقدمها وتلعن الشباب الذين سيخربون البلد لأنهم لا يعودون إلى بيوتهم بعد أن حقق لهم الرئيس كل طلباتهم، وفي المساء رأيت الناس يتجمعون حول الجزيرة مباشر ويلعنون الرئيس ورجاله. وبعد أيام بينما كنت متوجهًا من مقر عملي بالزمالك إلى الميدان، سألت ضابط جيش عند حاجز أمام التليفزيون: كيف دخل البلطجية على أحصنتهم وجمالهم عبر هذه التحصينات؟ فقال لي بتحفز: "إحنا اللي دخلناهم.. عاوز حاجه؟" قلت له: لا.. حصلت بالفعل على ما أريد.. وربما أكثر! 4- التخلي: بعد أن تأكد أن الناس لن يتركوا الميادين إلا بعد أن "يمشي" مبارك، وأن أساليب الترغيب والترهيب فشلت معهم، وأن كل شهيد جديد يسقط يؤجج القلوب والمشاعر أكثر.. وبعد ثمانية عشر يومًا تخللتها اتصالات ب- ولقاءات مع- القوى المؤثرة داخليًّا وعربيًّا ودوليًّا، خرج عمر سليمان نائب الرئيس لعدة أيام ليقرأ، متجهم الوجه، بيانًا من 35 كلمة استغرق 32 ثانية: "بسم الله الرحمن الرحيم. أيها المواطنون، في هذه الظروف العصيبة التي تمر بها البلاد، قرر الرئيس محمد حسني مبارك تخليه عن منصب رئيس الجمهورية، وكلف المجلس الأعلى للقوات المسلحة لإدارة شئون البلاد، والله الموفق والمستعان". من موقعي سمعت صياحًا وصفارات وكلاكسات ذكرتني بما يحدث بعد مباريات كرة القدم! كنت جالسًا لا أتحرك، بينما المحيطون ينظرون من الشباك ويتقافزون فرحين ويتلقون اتصالات تهنئة ويرسلون مثلها. كنت أفكر: ماذا بعد؟ لم يدر بذهني شيء ما، ولا توقعت أي سيناريو جميلاً أو قبيحًا، فقط تذكرت مناقشة مع الشاعر والقاص التونسي كمال العيادي، بعد هروب زين العابدين بن علي وقبل اندلاع ثورة مصر، قلت له: أنتم مخطئون لأنكم تسرعتم، كان لا بد ألا تتركوا الميادين قبل إزاحة النظام بالكامل. قال: الأمر يحتاج ستة أشهر. لذلك حينما أعلن المجلس العسكري أنه سيترك السلطة بعد ستة أشهر تعجبت، هل من الممكن أن تتطابق الأشياء إلى هذا الحد؟ لم أكن أعرف أن "مجلسنا" الموقر أمسك طرف خيط الوهم: "وهم سيناريو تونس" ليخدع أعضاء حزب الكنبة في سبيله للانقضاض على الثوار حتى آخر فرد، والانقضاض على الثورة تمامًا، عبر عبارة كارثية في أدبيات ثورتنا: "حمينا الثورة!". 5- التحية العسكرية: بكيتُ مرتين: الأولى حين بكى وائل غنيم في برنامج العاشرة مساء مع منى الشاذلي معتذرًا لأهالي الشهداء، مرددًا: "مش احنا السبب في موتهم، الناس اللي ماسكين في الكراسي هم السبب" (لا أحب تأتأة منى الشاذلي وتوجهاتها، ولا مفاصحة وتعاظل دينا عبد الرحمن وأغلاطها اللغوية الفادحة). كان غنيم خارجًا لتوه من المعتقل الذي استمر اثني عشر يومًا، أخرجه د.حسام بدراوي الذي أصبح أمينًا عامًا للحزب الوطني خلفًا لصفوت الشريف كجزء من عملية تزييف جديدة تهدف إلى الالتفاف على الثورة وتهدئة الثوار (لن يمر وقت طويل ليخرج بدراوي مع مجدي الجلاد في برنامج تليفزيوني يقول إنه قال لمبارك: لازم تمشي! كوميديا سوداء)، اتجه بدراوي بصحبة غنيم إلى ميدان التحرير، ومنه إلى منى الشاذلي، لكن غنيم كان أذكى كثيرًا ممن تصوروا أنهم يلعبون بورقته، إذ ألهب بكاؤه الصادق مشاعر ناس البيوت ضد حسني مبارك ونظامه، وأجهض أي أمل في بقائهم. الثانية بعد تخلى مبارك عن الحكم بقليل، حين أدى اللواء محسن السكري التحية العسكرية للشهداء، بوجهه الصارم، تلك الصورة التي حسمت عودة الناس إلى مقاعدهم أمام التليفزيون، يقسمون بأغلظ الأيمان أن الجيش المصري- وليس المجلس العسكري، لا حظ ذلك أرجوك- هو من حمى الثورة، وهي الصورة ذاتها التي ظلت في خيال الناس وهم يحمِّلون الثوار وزر أية مصيبة من تلك التي بدأت تترى تباعًا كأن الأرض انشقت عنها. أدى محسن السكري التحية- هو نفسه الذي خرج بعد ذلك يتوعد الثوار- قبل أن يخرج مذيعو التوك شو على الهواء مصطحبين محلليهم، أولئك الذين انتقلوا من كراسي التليفزيون إلى رئاسة أحزاب كرتونية متشابهة في كل شيء، حتى في أسمائها التي بدأت في الانفجار من داخلها والتكاثر كخلية سرطانية، ثم إلى لافتات انتخابات برلمانية أعدت على مهل لتضمن وصول الإسلاميين إلى الحكم، بمباركة من السعودية والإمارات عربيًّا، وأمريكا دوليًّا، في أكبر عملية تزييف حدثت في التاريخ الحديث، لا أشك لحظة أنها ستكون مادة الكثير من التحليلات والدروس الإستراتيجية والكتب والمذكرات، بعد أن يُعلن عن أسرارها! ثانيًا- صور الثورة المضادة 1- سميرة إبراهيم: بعد ثمانية وثلاثين يومًا من تخلي مبارك عن منصبه، وفي فجر 9 مارس، أظهر المجلس العسكري وجهه القبيح، إذ فضت الشرطة العسكرية- بالقوة المفرطة- اعتصامًا سلميًّا بميدان التحرير، مستخدمة كل أدوات الفتك التي تستوردها من أمريكا وبريطانيا بملايين تزيد عن حاجتهم لتنفيذ الحكم القضائي الخاص بتطبيق الحد الأدنى للأجور، لكنهم يدركون أن حد الأجور سيحمل الثوار إلى مقاعد السلطة ويحملهم إلى زنازين مزرعة طرة، لكن دون تحويله إلى منتجع فندقي كالذي يعيش فيه ابنا مبارك ورموز حكمه الآن! في هذا اليوم بدأت ستة خطوط في الظهور ومازالت تمتد حتى اليوم: الأول إطلاق صفة "البلطجية" على الثوار، حيث يزعمون أن "الحقيقيين" عادوا لمنازلهم بعد 11 فبراير، وأن من يخرجون للميادين بلطجية مأجورون، يجب أن يُواجَهوا بالحزم حتى لا يخربوا البلد. الثاني تعمد استهداف الناشطين المعروفين بدءًا ب"رامي عصام" مطرب الثورة، وذلك بمحاكمتهم أمام القضاء العسكري وسجنهم خلال يومين، أو فقء عيونهم وقتلهم بواسطة قناصة محترفين "جدع يا باشا"! الثالث كلام واضح مفاده أن الجيش هو الذي قام بالثورة، وأنه استخدم الشباب للتنفيذ فقط "من قال لك إنك قمت بثورة؟"، الرابع بدء استخدام البلطجية: إما لضرب الناشطين على طريقة موقعة الجمل، أو خلطهم معهم ليمارسوا أفعالاً مشينة كتناول المخدرات وتوزيعها بغرض الإساءة لهم وتبرير ضربهم واعتقالهم، الخامس سهولة إعلان الشعور بالأسف "رصيدنا لديكم يسمح: أليسوا منتصرين في حرب أكتوبر ومساندين للثورة؟ وكأننا نحن الذين انهزمنا في يونيو وقدنا الثورة المضادة"! السادس استهداف البنات بشكل خاص لكسر أعين أسرهم ومنعهم من التظاهر مستقبلاً: من سميرة إبراهيم إلى المتعراة! في هذا اليوم قبضوا على 7 فتيات وكشفوا على عذريتهم جهارًا نهارًا في أماكن مفتوحة بعد أن يأمروهن بخلع ملابسهن جميعًا، بينما الضباط والمجندون يتفرجون ويتغامزون. كانوا يراهنون على استحالة تجرؤ البنات على الكلام لتفادي الفضيحة، لكن سميرة إبراهيم، الصعيدية، وقفت أمام الكاميرا وحكت بالتفصيل، لتفضحهم، قبل أن ترفع دعوى قضائية ضد المجلس العسكري وتربحها. 2- اعتصام إعلام: ظُهر يوم موقعة الجمل كنت مارًّا في 26 يوليو أمام شركة توزيع كهرباء جنوبالقاهرة، فرأيت باصًّا أبيضَ يحمل الموظفين إلى ميدان مصطفى محمود، أو التحرير الله أعلم! وبعد خلع المتخلي بأيام قليلة شاهدت تظاهرة كبيرة أمام نفس المبنى، يحمل المتظاهرون لافتات ضد فساد المدير عضو الحزب الوطني: "الكهربا 100/ 100.. مش هنسيبها للحرامية"، اقتربت من أحد الشباب وسألته بدهشة: ألم تتظاهروا حبًّا في مبارك منذ أيام وحملكم الباص إلى مصطفى محمود؟ قال: "دول المحاسيب يا أستاذ!"، وقتها انفجرتْ مظاهرات- متوقعة- في كثير من الوزارات والهيئات والشركات والمصانع والمواقع مطالبة بإقالة فلول الحزب الوطني ومحاسبتهم على فسادهم الشخصي، وإفسادهم للحياة السياسية. ووقتها- كذلك- ظهر جيش المحللين الجاهزين، يروجون- بحسن أو بسوء نية- لوجهة نظر العسكر في إدانة "الاعتصامات الفئوية" بدعوى تعطيل "عجلة الإنتاج" في وقت نحتاج إلى العمل لتعويض الخسارة التي ألحقتها بنا 18 يومًا من الثورة. قالوا لهم: "اصبروا، الجيش سيرحل بعد ستة أشهر ويستقر الأمن، وسينظر في كل المظالم". الجيش كان يريد شراء الوقت للإبقاء على الفلول في مواقعهم لتبقى دولة مبارك.. للسبب نفسه نشطوا لتصوير اعتصام طلاب كلية إعلام القاهرة كونه اعتصامًا فئويًّا: "ما دخل الطلاب في اختيار العميد؟ قلة أدب ورعونة غير مبررة، أليس هذا حق أعضاء هيئة التدريس وحدهم؟". الأمر إذًا ليس له علاقة بتطهير أعضاء لجنة السياسات، تم تصغيره في صورة طالب لا يحب أستاذه ويريد اختيار أستاذ أسهل منه! بعد خمسة أيام فقط، يوم 24 مارس، فضت قوات الشرطة العسكرية اعتصام إعلام بالقوة المفرطة، كهربوا الأولاد والبنات، وضربوهم بالهراوات، وأعلنوا أن العمداء ورؤساء الجامعات باقون في أماكنهم إلا من أراد أن يستقيل بإرادته، وعللوا قرارهم بأنهم لا يريدون مخالفة القانون حتى لا يعود الأساتذة إلى مواقعهم مرة أخرى بأحكام قضائية، كأنه لم تقم ثورة تستدعي إجراءات استثنائية. قانون مبارك الذي ما يزال دستورهم! لكن الأهم في هاتين الصورتين أن عشرات الاقتحامات أصبحت تحدث بعد ذلك دون أن تسترعي نظر أعضاء الكنبة المستهدفين، لأن الخبر أصبح يوميًّا وعاديًّا، ولأن "الفرشة" الإعلامية تمت بنجاح وغسلت الرءوس. 4- ما نبقاش رجاله: قبل ال18 يومًا التي أدت إلى خلع الرئيس، كنا نسمع فقهاء السلف يكفرون كل من يخرج عن ولي الأمر حتى لو كان ظالمًا، وأثناؤها كنا نقرأ بيانات الإخوان المسلمين التي تؤكد عدم اشتراكهم في المظاهرات، ونرى قادتهم يهرولون للاجتماع بالسيد عمر سليمان للتباحث حول مستقبل مصر، وكان الشهداء يتساقطون ما يزالون في الميادين. وما إن أُعلن عن تنحي مبارك حتى بدأ الإخوان الضغط من أجل تسريع إجراء انتخابات تشريعية حتى يحصدوا الثمرة؛ كونهم القوة البديلة للحزب الوطني، وخرج السلفيون من القمقم يهدمون المقابر ويحرقون الكنائس ويهدمونها أمام الكاميرات دون أن نسمع أن المجلس العسكري غضب، أو قدم أحدهم للمحكمة العسكرية مثلما قدم علاء عبد الفتاح ولؤي نجاتي وأسماء محفوظ وأكثر من 12 ألف شاب لأنهم يحررون تغريدات على تويتر وفيس بووك تنتقد أداء المجلس في إدارة الفترة الانتقالية. سأنقل للتذكرة كلام أحد شيوخهم، نقلته بالحرف من فيديو منشور على عدد من مواقع الإنترنت، تم تسجيله مباشرة قبل إحراق كنيستي إمبابة في 7 مايو، يقول: "احنا سمعنا إن فيه أخت محتجزة في قلب كنيسة، زي اللي بيحصل كالعادة يعني، الكنايس دلوقتي بقت عبارة عن عصابات، مافيا للأسف، أي واحدة تسلم إرهاب الكنيسة برئاسة ال(...) ال(...) شنودة، الكلمة دي لازم تطلع، واخد بالك؟ عملوا إرهاب، إحنا رايحين علشان نحل، رايحين وواخدين مجموعة من المشايخ، وداخلين جوه قلب الكنيسة علشان نحل الإشكال، ولا قسيس اتحرك ولا حد اتحرك، واحد بقول له يا ابني إحنا جايين نحل، يقول لي لأ، حتى لو انتوا عاوزين تحلُّوا احنا عاوزينها تولع نار، كده في وشي، واخد بالك، دا حدِّف على ده ودا حدِّف على ده، هم معاهم نار، معاهم أسلحة، دايما بنقول الكنايس مليانة أسلحة.. الكنايس مليانه أسلحة، المسلم يا عيني مسكين معاه إزازه بيحدفها، إنما النصراني معاه نار، سامعيني كلكوا يا مسلمين؟ واخدين بالكم؟ النصارى كلهم معاهم أسلحة واحنا مغفلين، احنا كمسلمين مغفلين، إنتوا سامعيني؟ ضرب النار كله جاي من (...) النصارى، جاي من ناحية الكنيسة، المسلم يا عيني رايح بطوبة، منبقاش رجاله لو ما ولعنا الكنايس اللي في إمبابة" القانون الذي خاف عليه أعضاء العسكري في حالة رؤساء الجامعات لم يعمل هنا، استبدل بقانون الطبطبة و"حقك عليَّ ما تزعلشي"! كانت إشارة واضحة، لم نفهمها في حينها، على أن هذه القوى لا يجب أن تحاسب لأنها تلعب وستلعب أدوارًا في المستقبل، وهو ما كان باحتلالهم ثلاثة أرباع مقاعد مجلس الشعب. وفي المقابل تم دهس المتظاهرين الذين تجمعوا أمام ماسبيرو لينددوا بإحراق الكنائس وهدمها، دهسوا بوحشية وقتلوا بالرصاص، وما يزال الفاعل مجهولاً. كيف نقرأ هذه الصورة إذًا؟ طرفان، أحدهما يحرق ويهدم من جهة: الإسلاميون السياسيون، والآخر من الجهة الأخرى يعتقل ويسجن: المجلس العسكري، الضحية دائمًا مقتول أو مسجون، والجانيان يتقاسمان الحكم والتفاوض على المستقبل. إنه تحالف الأشرار! 4- طريق الموتوسيكلات: فض اعتصام بالقوة المفرطة.. كغيره، هذا ما حدث صباح السبت 19 نوفمبر حين هجمت قوات الشرطة العسكرية على عدد قليل من أهالي الشهداء والجرحى الذين استمروا في التحرير بعد مليونية المطلب الواحد، مطالبين بحقوقهم التي لم يحصلوا عليها رغم مرور عشرة أشهر، ورغم الإعلان عن صناديق حكومية لهذا الغرض! الصور استفزت النشطاء الذين هموا للدفاع عن المستضعفين من الأرامل والثكالى والأيتام، فكانت مواجهات دامية شهدها شارع محمد محمود طوال خمسة أيام، حرب حقيقية لم تحدث بهذا العنف أيام حكم المخلوع، استخدمت فيها قوات الأمن نوعًا غريبًا من الغازات لتفريق المتظاهرين قيل إنها سامة، وقيل إنها محرمة، لكن الجميع اجمعوا على أنها أشد فتكًا مما استخدم من قبل، واستُخدم القناصة الذين يصوبون على الرءوس والعيون: "جدع يا باشا!"، فأضفنا شهداء جددًا إلى قائمتنا، ومصابين، أجدرهم أحمد حرارة الذي خسر عينًا يوم 28 يناير، والأخرى في أحداث نوفمبر، ومع ذلك لم يندم. كثرة الإصابات نتيجة الغاز المختلف خلق إبداعًا جديدًا في الميدان، حيث يقف شباب في صفين متوازيين يشدان حبلين على هيئة شارع، يخرج من محمد محمود وينتهي في عيادة الميدان، الشارع خالٍ إلا من موتوسيكلات خفيفة الحركة تجري، كل منها يحمل ثلاثة أفراد: سائق ومصاب ومتطوع، كما تجري في الشارع المصطنع سيارات إسعاف تحمل الحالات الحرجة.. هل يمكن هزيمة شعب مبدع؟! 5- الفتاة المتعرية/ صورة الصور: منذ اليوم الأول للثورة المصرية، ومن قبلها، خرجت الفتيات والسيدات المصريات إلى الميادين يهتفن بالصوت "الحياني" مطالبات بالحرية والديمقراطية، ومنددات بالقمع والاستبداد، وقدمن أنفسهن للموت طائعات بداية من سالي زهران: زهرة شهداء ثورة يناير. شخصيًّا كنت أرى المئات منهن والآلاف متحلقات حول شاب يعتلى الأكتاف ويهتف، فيرددن وراءه بحماس منقطع النظير، أصواتهن تملأ الميدان قوة وإصرارًا، في حين يصنع الشباب دائرة واسعة حولهن ليمنعوا عنهن أي خطر. فتيات جامعيات كن يهتفن: "الجامعة قالت كلمتها/ المجلس تحت جزمتها" و"من الجامعة للميدان/ ضد حكمك يا عنان"، وفتيات من المدارس الثانوية القريبة، يحملن حقائب الكتب على ظهورهن ويهتفن: "ضحكوا علينا بالاستفتاء/ شفتوا جمال وأخوه علاء؟" و"يا مشير اتلم اتلم/ أحسن تبقى دم ف دم". أتصور أن خروج الفتاة الواحدة إلى ميادين الثورة يعادل خروج ألف شاب لعدة أسباب، أهمها على الإطلاق أنهن تعبير حقيقي عن وجود قاعدة شعبية تساند الثورة، فالأسرة التي توافق على خروج بناتها للميدان يتعرضن لخطر الضرب والقتل بالرصاص وبالغاز، لا شك مؤيدة للثورة حتى النخاع. ربما هذا يبرر الهجمة الحقيرة التي نفذها- وينفذها- المجلس العسكري ضد فتيات الثورة، بواسطة الشرطة العسكرية وقوات المظلات، تلك التي تنوعت أساليبها من الضرب المبرح حد التشويه، إلى التحرش الجنسي، إلى الحبس والتهديد بالمزيد من الأفعال المشينة، إلى السحل بوحشية، تذكرنا بقوات الاحتلال الصهيوني ومسلكها ضد الفلسطينيين (راجعوا السيرة الذاتية للمقدم حسام الدين محمد من قوة المظلات، وشهادات الفتيات عن تعذيبه لهن)، مما حدا بأحد ضباط القوات المسلحة السابقين إلى التصريح بأن الجيش لم يعامل الأسرى الإسرائيليين بهذه الوحشية، كما طردت "هند بدوي"- المعيدة بكلية التربية ببنها، والتي اعْتُدِيَ عليها بوحشية- المشير طنطاوي من المستشفى وهو يتفقد الجرحى.. يقتل القتيل ويمشي في جنازته! الكثير من الممارسات الوحشية التي نفذتها قوات الجيش ضد فتيات الثورة مسجل، بالصوت والصورة، ومنتشر على مواقع الإنترنت، وهي ليست مجرد وحشية إنما حقد على الثوار الذين تكلموا أخيرًا، وانتقام بشع منهم، سيسجله التاريخ في أسوأ صفحاته، وسيهيل التراب على وجوه منفذيه والذين أمروا به.. لكن صورة الفتاة التي تم سحلها وتعريتها أمام الكاميرات- والتي اعترف بها اللواء عادل عمارة في مؤتمر صحفي يصلح درسًا في الكوميديا السوداء- تظل هذه الصورة أيقونة الثورة التي تلخص سيرتها وصورة صورها جميعًا. أخيرًا: قامت في مصر ثورة ناصعة بكل المقاييس، احتفى بها العالم ولخصتها كلمة بيرلسكوني رئيس وزراء إيطاليا: "لا جديد.. المصريون يصنعون التاريخ كعادتهم!". ثم نشطت أجهزة المخابرات الكبرى، ومراكز الأبحاث الإستراتيجية في العالم لإجهاضها بمساعدة قوى الثورة المضادة: المجلس العسكري، والمهرولون إلى مقعد الرئاسة ممن يطلقون على أنفسهم "المرشحين المحتملين"، والتيارات الإسلامية: إخوان وسلفيون، الذين رأوها فرصة للقفز على الحكم عبر جثث شهداء لم تستو في قبورها، فلول العصابة التي لا تزال تجلس على مقاعدها، دول خليجية ضخت ملايين الدولارات بقصد إرباك المشهد السياسي، ودول أجنبية، على رأسها أمريكا وإسرائيل لا تريد ديمقراطية حقيقية في مصر للأسباب التي ذكرها نعوم تشومسكي. فهل ينجحون؟ أم سيقول الشعب رأيًا آخر في 25 يناير 2012؟