تم العثور على موظف عام شريف.. خبر يستحق أن ينشر فى الصفحة الأولى لأكبر الجرائد اليومية المصرية ،ويبرز وتفرد له مساحة تساوى مساحة خبر يشير إلى العثور على بقايا إنسان من العصر الحجرى أو حيوان منقرض.. لا ينتمى لهذا الزمان لذلك تحول إلى أعجوبة. الموظف الشاب معاون بريد صعيدى من بلدة منفلوط عرض عليه أحد المحامين رشوة 10 ملايين جنيه مقابل أن يكشف له عن كلمة سر تتيح له حل شفرة حسابات الهيئة والاستيلاء على 40 مليون جنيه من أموالها (!!). موظف البريد لم يكتف برفض الرشوة، لكنه أبلغ رئيس الهيئة الذى طلب منه أن ينسق مع جهات الأمن لضبط المحامى اللص، وهو ما فعله المواطن الشريف .. ولا ريب فى هذا، لكن الإعلام تعامل مع مسألة الشرف وكأنها أمر استثنائى وليس قاعدة وكأنه كان من المفروض أن يوافق الموظف رجل القانون اللص ويساعده على سرقة مئات وربما آلاف المدخرين الغلابة أصحاب دفاتر التوفير .. أم ترى أن هناك من رأى أن الإغراء أكبر من أن يرفضه هذا الموظف الذى يتقاضى راتبا شهريا 600 جنيه، فكان عليه أن يسرق الهيئة الحكومية التى تسرقه حين لا تمنحه مقابل جهده . وكأن هذه الهيئة وغيرها من الهيئات الحكومية قد عقدت اتفاقا غير مكتوب مع عمالها وموظفيها من كلمتين:(اسرقنى وأسرقك)، الموظف يسرقها فى ساعات العمل وحسن الأداء وتضييع حقوق الناس إذا كان الأمر يتعلق بوظيفة خدمية ، وفى المقابل يرضا بقلة الراتب الذى حصل عليه، لأنه يعوض الفارق من الرشوة أو العمل الإضافى الذى يؤديه على حساب عمله الأصلى الذى ما أبقاه فيه إلا التأمينات والمعاشات وضمان الوظيفة الدائمة.. علاقة تعاقدية خادعة. وغالبا كان موظف البريد الصعيدى البسيط صادقا حين تحدث عن الشرف ومخافته لله ورضائه بالقليل الحلال واتفاقه هو وزوجته ابنة عمه وأم ولده الوحيد على التمسك بهذه المبادئ، لكن كم مثله يفكر بهذه الطريقة ؟! وكم منا يرى فى تصرف موظف البريد شيئا من السذاجة و«العبط»؟ ، هذا الموظف تعامل مع المسألة بفطريته الإنسانية وإيمانه القوى بأن هناك حساباً إلهيا غير حسابات البشر ، هذا ما فهمته من كلامه فى الصحيفة، ولكن هناك سبب ثالث غير الفطرة وخشية الله، لم تتطرق إليه حكاية الموظف وأقصد بها القانون ، سواء القانون الذى يتم تطبيقه من خلال ولى الأمر الذى تمثله مؤسسات الدولة ، أو القانون العرفى الذى تقره المجتمعات، وتحاسب به المخطئ، ويكون مناط التزام الأفراد هنا بالأخلاق ناتجاً عن الخوف من الفضيحة ونبذ الجماعة للمخطئ المسيىء، ويكون التمسك بالأخلاق فى هذه الحالة تمسكاً شكلياً يسهل على الفرد التخلى عنه إذا آمن قبضة القانون وعدم افتضاح أمره. والسؤال الذى يتردد على ألسنة كثير من المصريين وتصدع به الرؤوس وسائل الإعلام ليل نهار: ماذا جرى لأخلاق المصريين؟ .. لماذا انقلبت أولوياتهم القيمية، فصارت تغذية الجسد والاعتناء به واقتناء متطلبات الرفاهية مقدمة على كل ما عداها من قيم ، فى حين تراجعت قيم الحب والحنان وتقدير الذات وتحقيقها ؟! علماء الاجتماع والأخلاق يحمّلون الخطأ لجهات ثلاث: التعليم والإعلام والخطاب الدينى، والجهات الثلاث غير موجهة بمعنى أنه ليس للدولة سيطرة كاملة عليها، لأن عصر الدولة الشمولية انتهى فلم يعد هناك إعلام موجه فى عصر السماوات المفتوحة والأقمار الصناعية، ووزارة التعليم لم تعد "فاضية" للتربية وسط أزمات الثانوية العامة والكتاب المدرسى وتكدس الفصول، أما الخطاب الدينى فمعظمه لا يخرج عن إطار كتابين أو ثلاثة للخطابة يحفظها خطباء الزاويا ومساجد أسفل العمارات ويكرونها كل جمعة فى حديث معاد مكرر مغرق فى الماضى وحوادثه واستشهاداته التى يزيد عمرها على قرن ونصف مضى، مركّزين على فقه العبادات ، مهملين لفقه المعاملات ، فيخرج الشخص من صلاة الجمعة ليتشاجر مع جاره وربما يقتل أحدهما الآخر على حق تائه بينهما أو "ركنة" السيارة أمام منزل الآخر ، وهذه مصيبة أخرى سببها زيادة النسل الرهيب والزحام وقلة الفرص أو ندرة العرض مقابل الطلب، هذه الأزمة هى التى خلقت ثقافة مشوهة اسمها ثقافة الزحام ، وهذه مشكلة أخرى.