يدهشني حد الغضب مطالبة البعض للكتاب والصحفيين والإعلاميين أن يكونوا محايدين خلال ممارسة أعمالهم. ومن خلال فهمي المتواضع لطبيعة النفس البشرية أرى أن الحياد منقصة، بل سبة في بعض الأحيان، خصوصا لهذه الفئة من الناس التي نتحدث عنها. هل من المفترض أن أكون ( ككاتب) محايدا وأنا أكتب عن الظلم ؟ هل أكون محايدا وأنا أكتب عن الاستعمار؟ أليس لي رأي في تعذيب المواطنين العزل ( في أي مكان) على يد بعض أفراد الشرطة أو أجهزة المخابرات المحلية أو العالمية ؟ ألا ينبغي أن يكون لي رأي في سقوط القنابل العنقودية والفسفورية على أحياء سكنية في العراق أو فلسطين أو أي مكان في الكرة الأرضية؟ الإعلامي المحايد هو الإعلامي الانتهازي، عديم الشخصية، غير المثقف أو محدود الثقافة، الإعلامي المحايد هو ذلك الشخص الذي يمكنك توظيفه صباحا من أجل الإشادة بدور أمريكا في المنطقة، وبالشراكة الاستراتيجية معها، ثم توظفه مساء نفس اليوم من أجل هجاء الإمبريالية الأمريكية، لأنها تحدثت حديثا لينا عن عوراتنا وخزينا في مسائل الحريات أو الانتخابات أو غيرها. هو ذلك الإعلامي الذي يمدح النظام ويمجده ليل نهار، فإذا سقط تحول في جزء من الثانية إلى سبه ولعنه، ثم يتحول بعد ذلك بأسابيع إلى مخلب قط يوظفه من استقر له الأمر، ثم بعد ذلك يضع نفسه في خدمة آخر. الإعلامي ( المحايد) هو ذلك النكرة عديم الفكر، الذي تراه يخدم الغالب دائما. الإعلامي الحقيقي صاحب الرسالة هو ذلك الإعلامي المتحيز لفكرة، الذي يملك شيئا ما يؤمن به، ويدافع عنه، وهو الذي يكون مع الوقت رصيدا عند القراء أو المشاهدين بسبب تراكم عمله في اتجاه أفكار واضحة، ويدفع ثمن هذا الانحياز لهذه المواقف، وينطبق ذلك على الأفراد، والجماعات، والمؤسسات، والصحف، والقنوات المسموعة أو المرئية... الخ. الحياد أكذوبة! حتى الله سبحانه وتعالى لم يطالبنا به، قال تعالى: "ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى" وهذا الأمر الإلهي هو الأقرب للمنطق، والأكثر اتساقا مع النفس البشرية وتكوينها، فالله سبحانه لا يطالبك بإلغاء ذاتك، ولا يطالبك بأن تكون ( محايدا) في قضايا ينبغي أن يكون لك فيها رأي، أو يطالبك بأن تكون ملاكا، بل يطالبك بضبط النفس، وبأن تقيم العدل مع مخالفيك في الرأي، مع احتفاظك برأيك كما هو. بمعنى آخر: لا يطالبك بحذف "الشنآن" من قلبك، بل أن تتحكم فيه، وأن تمنعه من أن يتحكم فيك. التحيز هو الأصل...! والذين يتصدون للعمل الإعلامي والجماهيري لابد أن يكونوا من هذا النوع من البشر الذي يؤمن بفكرة ما بصدق وإخلاص، وهؤلاء هم الذين ينهضون بالمجتمعات البشرية بحق. لذلك نرى من أكبر خيباتنا الآن أن الإعلام جاهز دائما للقيام بدور المحلل لأي صاحب سلطة، وهو يقوم بذلك متطوعا، لأننا أمام آلاف الإعلاميين الذين جبلوا على القيام بهذا الدور، حتى إنهم حين وضعوا في اختبار الحرية فشلوا، وظلوا في أماكنهم في انتظار أن تأتيهم الأوامر من جهة ما، وأن يظهر ( اللهو الخفي) ليرعبهم. إن جزءا كبيرا من مشاكلنا نحن العرب خلال العقود الماضية أننا صدرنا للعمل العام مجموعة من المحايدين النكرات، وهؤلاء قد انتقتهم عناية السلطان وعيونه، فأصبحوا بأمر الأجهزة الأمنية جهابذة السياسة، وكبار الكتاب، ورجال الدين، وأمراء الشعر، وملوك البيان. هم من يكتب التاريخ كما يريد السلطان، ويستشرف المستقبل كما يرغب ولي العهد، هم من يرى الحريات في صعود رغم كل قمع، ويرى الاقتصاد في ازدهار رغم كل فقر، وهم من يرى نصف الكوب ملآنا حتى إذا كان ملآنا بالدم، وهم من يرى الرئيس (أي رئيس، وكل رئيس) ملهما، ويرون كل خطاب له خطة عمل قومية، وكل زيارة له زيارة تاريخية، وكل قراراته حكيمة حتى لو كانت قرار قتل، وهم كذلك من يرى كل مخالف للرأي... شخصا غير محايد، مشبوه الانتماء الوطني، يتلقى تمويله من الخارج. الإعلامي المحايد عجينة يشكلها السلطان كيف يشاء، فتارة يجعلها حذاء يلبسه، أو بساطا يدوس عليه، أو خاتما يتزين به، أو حتى إلها من عجوة يتعبد له وإن جاع أكله. الحياد... أن تكون مع السلطان، إن ذهب شرقا شرقت، وإن ذهب غربا كنت أول المغربين، وإن ذهب شرقا وغربا، قطعت نفسك نصفين ليذهب هذا إلى شرق والآخر لغرب. أما التحيز... فهو أن تقول كلمة الحق، دون تجن على أحد، ودون صادرة على حق الرأي المخالف في الوجود، فأنت تقاتل من أجل رأيك، ولكنك على استعداد للشهادة من أجل أن يقول الآخرون آراءهم بحرية.