خلدت ذاكرة المصريين جرائم "ريا وسكينة " باعتبارها حدثا استثنائيا وقع في حياة المصريين في العقد الثاني من القرن العشرين ، اليوم ، وعلى أعتاب العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين تبدو الصورة مختلفة كثيرا ، صفحات الحوادث تؤكد ذلك : أب يقتل أبناءه وزوجته بعد خسارته أمواله في البورصة ، ويقوم بجريمته بطريقة وحشية ربما لم تخطر ببال الشقيقتين ريا وسكينة (النزهة شرق القاهرة / يناير 2009) ... زوجة تتقطع زوجها بالساطور ، وتفصل رأسه وأطرافه عن جسده ، بمعاونة أولادها الثلاثة (الدخيلة / الإسكندرية مايو 2009) ... أب هشيم رأس ابنه بشومة، ثم قطع جثته إلى 4 أجزاء ببلطة، وتخلص من الجثة بالقائها في ترعة ، والسبب طلب الابن 100 جنيه من والده (المحلة الكبرى / يناير 2009 ) ... أب جرد طفلتيه من ملابسهما و دفنهما حيتين بماسورتي مياه جوفية عمقها 200 متر ، وألقي عليهما شيكارتي رمل وبعض مخلفات المزرعة (مركز السادات منوفية / مايو 2009) ... عامل يقتل ابني خاله الطفلين ويمثل بجثتيهما (العمرانية / مايو 2009) ... سائق يطلق النار على مطلقته وأسرته ليلقى الجميع حتفهم باستثناء شقيقة الزوجة ( المعصرة / مايو 2009 )... عرض فيديو لرجلين يذبحان شابا في عرض الطريق نهارا والمارة يتفرجون (الإسكندرية / مايو 2009) ... أب يلقي ابنته وزوجته من الطابق السابع عقب مشاجرة عائلية ( شبرا الخيمة / يونيو 2009) .. عجوز يقتل زوجته الشابة ورضيعها ويقطع جسديهما الى أجزاء يسلقها على النار، بعد أن اعترفت له بخيانتها وعايرته بضعفه الجنسي (الإسكندرية / نوفمبر 2008 ) ... مدرس يذبح زوجته وابنته ويحاول قتل أبنائه الثلاثة ، ويشعل النيران فيهم وفي نفسه ، لخلافات مالية بينه وبين زوجته (مغاغة محافظة المنيا / أكتوبر 2008) ... عامل ينهال طعنا بالسكين على أفراد أسرته، فيذبح طفلته ويمزق جسدي ابنه وزوجته، ثم يطعن نفسه عدة طعنات في محاولة للتخلص من حياته (شبين الكوم / أكتوبر 2007) ... سيدة تحاول منع رضيعها من البكاء ،بعضِّه أكثر من مرة في مناطق متفرقة من جسدة إلى أن فارق الحياة (الإسكندرية/فبراير 2009 ) ... وهناك المزيد.. وحشية وعنف غير معتادين في المجتمع المصري ، والأسرة المصرية ، الآباء يقتلون الأبناء ، والأزواج يتحاورون بالساطور ، والأمر يتحول لظاهرة تهدد المجتمع ، ومن حقنا أن نبحث عن الأسباب والعلاج ، قبل أن تستفحل الظاهرة وتتضافر مع ظواهر أخرى تهدد كيان المجتمع وتماسكه ... هل هي أسباب حقيقية ؟ حين تقع واحدة من هذه الجرائم يُهرع الإعلاميون إلى أساتذة الاجتماع وعلم النفس وعلماء الدين لتحليلها وتفسيرها ، وكالعادة لا تخرج التفسيرات والأسباب عن : التفسير الاقتصادي : فالبطالة ، وسوء الأوضاع الاقتصادية والأحوال المعيشية ، وراء كثير من الجرائم المذكورة ، فالفقر والحرمان وراء كثير من النزاعات التي تتطور في نفس أصحابها وتدعو بعضهم للعنف ، ومع الأزمات الاقتصادية المتتابعة ، والآثار السيئة للأزمة الاقتصادية العالمية ، وما صاحبها من فقدان للوظائف ، وخسائر بالبورصات ، ينعكس ذلك كله على أخلاقيات الناس ، ويهدد توازنهم النفسي ، ويصيبهم بالاضطرابات التي يصاحبها عنف قد يصل لدرجة الوحشية . قد يصلح البعد الاقتصادي تفسيرا جزئيا لبعض الحالات ، ولكن هناك جرائم وحشية ارتكبها بعض الأشخاص الميسورين ماديا ، وأيا ما كان الأمر فمن غير المفهوم أن تدفع الظروف الاقتصادية الأب لقتل أولاده ، أو الزوج لقتل زوجته ، وبهذه الطرق التي تنافي الفطرة البشرية . التفسير الديني : ويذهب أصحابه (وأغلبهم من العامة والبسطاء ) إلى أن هذه الجرائم ، وهذا العنف غير المسبوق ، يعود للبعد عن الله ، وانعدام التقوى في النفوس ، فالالتزام الديني يحمي صاحبه ويردعه عن ارتكاب مثل تلك الجرائم ، ولكن هذا التفسير يضيع مع التدين الشكلي الذي يصبغ المجتمع في غالبيته ، كما أنه يوجد في المجتمع كثير من غير المتدينين ممن لا يرتكبون هذه الجرائم أو أقل منها ، لا يعني هذا أن التدين لا يعصم الانسان من الشرور ، ولكن لابد من إدراك حقيقة اجتماعية ، أن المجتمع لن يكون جميع أفراده من المتدينين ، ولن يخلو من مدعي التدين ، وأصحاب التدين الظاهري ، وسنجد من يقتل زوجته الخائنة بوحشية بدعوى أن ذلك من النخوة التي ينميها الدين في النفوس. التفسير النفسي : لا يتردد أساتذة علم النفس بوصف مرتكبي هذه الجرائم بأنهم يعانون اضطرابات نفسية ، وضغوط سلوكية مرضية ، أو اضطرابات عقلية ، أو أنهم من الشخصيات السيكوباتية العدوانية التي تجد راحتها في العدوان والإيذاء ، أو أنهم مرضى مكتئبون ينتحرون معنويا بجرائم القتل التي يرتكبونها ! قد يكون التفسير النفسي تفسيرا أنيقا ، ومريحا ، ومطمئنا للكثيرين بتصويره لمرتكبي هذه الجرائم بالقلة غير السوية ، وأن الأغلبية مازالت بخير ، ولكنه يحمل معنى ضمنيا شديد الخطورة ، فهو يجرد مرتكبي هذه الجرائم البشعة من مسئوليتهم القانونية ، ويجعل عقابهم نوعا من القسوة ، فهم في النهاية مرضى يستحقون الرعاية والعلاج ، بدلا من المحاكمة والعقاب ، والأهم أن ذلك التفسير النفسي لا يقدم تفسيرا حقيقيا للظاهرة ، فلماذا أصيب هؤلاء تحديدا بالمرض دون غيرهم ممن يشاركونهم الظروف نفسها ، وربما أقسى منها ؟ وإذا كانوا واقعين تحت وطأة المرض النفسي فلماذا نحاكمهم ؟ والأهم : كيف نقي غالبية المجتمع من الإصابة بمثل تلك الأمراض ؟ ..التفسير النفسي لا يقدم إجابات لتلك الأسئلة .. التفسير الاجتماعي فكثير من خبراء الاجتماع الذين أدلوا بدلوهم في هذه الظاهرة أرجعوها إلى ثالوث : البطالة ، والفقر ، والفراغ ، وهو تفسير يحمل في طياته بعضا من الصحة كسبب مباشر لبعض الجرائم التي تقع بغرض السرقة ، أو الاعتداء الجنسي ، مفهوم أن تدفع البطالة والفقر للقتل من أجل السرقة ، أو يدفع الفراغ مع تأخر سن الزواج ، وإدمان مشاهدة المشاهد الإباحية ، إلى جرائم هتك العرض ، ولكن الأسباب الثلاثة السابقة لا تفسر الوحشية التي تتم بها تلك الجرائم التي رصدناها ، فمن يقتل بدافع السرقة وبسبب البطالة والفقر ليس مضطرا لهذا العنف وتلك القسوة التي نحن بصددها . يضيف خبراء الاجتماع أسبابا أخرى مساعدة ، مثل دور وسائل الإعلام ببثها أفلاما تروج للقتل بصور عنيفة، مع انهيار قيم المجتمع ، وتحلل العلاقات الأسرية ، ولكنهم لم يقولوا لنا : من وراء انهيار قيم المجتمع وتحلل العلاقات الأسرية ؟ التفسير الأمني وهو تفسير يتبناه سياسيون ومثقفون يرون أن تركيز النظام على الأمن السياسي ، بدلا من الأمن الجنائي ، يصرف الشرطة عن مهمتها الرئيسية وهي مكافحة الجريمة ، والوقاية منها ، وهي ملاحظة سليمة ، ولكنها لا تصلح لتفسير الجرائم الزوجية والأسرية ، فالشرطة لن تدخل البيوت لمنع الاعتداءات بين أفراد الأسرة الواحدة ، والذين برتكبون مثل هذه الجرائم لا يبالون غالبا بالعقاب ، وكثيرا ما يسلمون أنفسهم للشرطة ، بعد أن تضيق بهم السبل ، ولا يجدون مفرا من الإقرار بما اقترفوه . ما هي الأسباب والتفسيرات الحقيقية لظاهرة العنف المتصاعدة في المجتمع المصري ؟ إضافة للأسباب التي أوردها المختصون ، من المهم أن ننظر للمشكلة نظرة كلية ، فالمناخ العام الذي نحياه هو المغذي لكل صور الشذوذ التي نراها في المجتمع ، هناك فقدان للثقة وفقدان للأمان ، فمن يقتل أولاده خشية الفقر فلا شك أنه فقد الأمان في الغد ، ويعلم أن المجتمع لن يحميه من الفقر ولن يرحمه ، من يثأر من خصمه بيديه ويقتله ليشفى صدره من الحقد والغل ، هو لا يثق في قدرة المجتمع على إنصافه ، وطالما سيعاقب على جريمته ، ولن يتفهم أحد دوافعه ، فهو يرتكبها بأقسى صورة ممكنة تطفيء غيظه ، وليكون ما فعله مستحقا للعقوبة التي تنتظره ، بما يجعله يتلقى العقاب باستسلام أكبر . هناك حالة إحباط عامة في المجتمع ، فالدولة رخوة ، والشعارات المعلنة تخالف الواقع ، والفساد يضرب أطنابه في كل مكان ، والقانون لا يطبق على الجميع ، وحين يغيب القانون ، تصبح الرشوة ، واستغلال النفوذ ، والعنف ، هو الحل ، والعنف هو الحل الأسهل للفقراء ، ولا شك أن ضابط الشرطة الذي تسبب في احتراق سائق التوكتوك في الاسكندرية ، أو الذي يتلذذ بالتعذيب في أقسام الشرطة ، يرتكب جرائمه في هذا الإطار ، غير أنه يضمن لحد ما أنه لن ينال عقابا ولن يُحاسب ، ولو وجد مرتكبو الجرائم التي رصدناها أمانا مجتمعيا ، يقيهم البطالة ، والفقر ، ويرد الحقوق المسلوبة لأهلها ، ويثأر للمظلومين ، لو وجد هؤلاء عدلا يرضيهم ، ويؤمن يومهم وغدهم ، لتردد أغلبهم في الإقدام على العنف ، ولتركوا مطالبهم في أيدي المؤسسات المجتمعية ، التي لا تبطيء في الفصل فيها . ثقافة العنف تولد من ثقافة القهر ، وثقافة الفساد ، وثقافة الظلم ، وغياب القانون ، وزيادة الفقراء ، وتحول القيم والأخلاق لشعارات ترفع في المناسبات وتنتهك من الجميع ، في مناخ كهذا لا يمكن أن تختزل أي ظاهرة في تفسير واحد ، وإن كان مريحا ..