قد تتوافر للكاتب أو الباحث معلومات، لكن هناك من الكتّاب والباحثين من ينفذ إلى ما وراء هذه العلومات، ومنهم من يكتفى بالحلول السهلة والقراءة السطحية والقفز إلى النتائج وهو يحسب أنه بذل جهدا على الرغم من أنه لم يفعل أكثر من رص المعلومات وتزيينها ببعض الجمل الإنشائية، وإذا أردنا أن نمثل لهذا نسأل: هل مجرد وجود بيت العدل البهائى فى حيفا بعكا هو دليل على وجود علاقة آثمة للبهائية بإسرائيل والصيونية ؟ بعض المهاجمين يقولون: نعم. بل وهناك أموال طائلة أنفقت على حدائق بيت العدل وتجميلها، بينما البهائيون يردون بالنفى ويقولون إن وجود البهائيين فى عكا سابق على تاريخ قيام إسرائيل بسنوات كثيرة، وبالتحديد كان وجودهم فى سنة 1868، بينما قامت دولة إسرائيل سنة 1948م . وما بين الاتهام والنفى تختلط الحقيقة على البسطاء ، فيما يمكن استخلاصها بقليل من إعمال العقل وقليل من البحث، والتحليل للعلاقات المبنية على معلومات صحيحة ودقيقة. وأولى هذه الحقائق وأهمها تشير إلى أن هناك تماسا بين العقيدة البهائية والعقيدة اليهودية الصوفية، وأن هناك تأثيرا كبيرا من الأخيرة على الأولى، ويتجلى هذا التأثير فى إيمان البهائية بعقيدة أو مبدأ الحلول أو وحدة الخالق والمخلوق ومن ثم فالخالق هو المخلوق، وحينما يعبد المخلوق الخالق فإنه يتوحد معه ويعبد نفسه، أو يعبد قوة خفية لا يمكن الوصول إليها تشبه قوانين الطبيعة ، وهذا الاعتقاد مؤسس على قناعة ضمنية فاسدة مفادها أن توحد الإله فى مخلوقاته يخضع من منظور بهائى إلى مبدأ الاصطفاء أو الذاتية، واليهودية تعتقد أن الشعب اليهودى يتوحد تماما بالخالق، ومن ثم تصبح إرادة الشعب من إرادة الخالق، بل إن الخالق يحتاج إلى الشعب لتكامله وفى ذات الوقت لا إرادة للشعب لأنه أداة فى يد الخالق. وفى البهائية أن الإخلاص لها يعنى توحد البهائى مع الجوهر الإلهى، وبالتالى ركونه إلى الراحة الأبدية والخلود الروحى والروح هنا لا تفنى بفناء الجسد.. بل تنتقل من جسد إلى آخر حتى تبلغ غايتها، ومن يخالف تعاليمها فإن جزاء روحه العذاب الأبدى المتجسد فى البعد عن الإله. وسوف نعود فيما بعد لعقائد البهائية التى تتماس فى جانب منها مع المسيحية - كما سبق وأن قلنا – ومع التراث الإسلامى فيما يتعلق بالإيمان بعقيدة المهداوية أو المهدى المنتظر تلك الفكرة التى تشبعت بها البهائية من البيئة الشيعية التى نشأت فيها، وهذه الفكرة كما قلنا (فيما تشبه) فكرة المسيح المخلّص الذى ينتظره اليهود، وقد أبدى البهائيون إيمانهم بهذه العقيدة فاقتربوا من العقيدة الصهيونية ورد اليهود الصهاينة والمستشرقون عبر - مخططهم - الهدية بأحسن منها، فقالوا عن البهاء إنه المقصود بالإمارة وسائر الألقاب التى وردت فى الإصحاح التاسع من سفر أشعياء: لأنه يولد لنا ولد ونعطى ابنا فتكون الرياسة على كتفه ويدعى اسمه عجيبا مشيرا قديرا أبا أبديا رئيس السلام . وتأسيسا على ما سبق فقد آمن البهائيون أن الخلاص اليهودى لن يتم إلا بتجمع اليهود فى فلسطين وإنشاء مملكتهم وقدوم مخلصهم، حتى أن الرئيس الثالث للبهائية شوجى أفندى ألف كتابا بعنوان التوقعات المباركة، قال فيه : (لقد تحقق الوعد الإلهى لأبناء الخليل ورثة الكليم (يقصد موسى عليه السلام) واستقرت الدولة الإسرائيلية فى الأراضى المقدسة، وأصبحت العلاقات وطيدة بينها وبين المركز العالمى للجامعة البهائية. وقال أيضا فى حديث له مع وزير الدولة الإسرائيلى لشئون الأديان إن أراضى الدولة الإسرائيلية فى نظر البهائيين واليهود والمسيحيين والمسلمين أراض مقدسة وقد كتب حضرة عبدالبهاء (عباس أفندى والد شوجى أفندى) قبل أكثر من خمسين سنة إنه فى النهاية ستكون فلسطين موطنا لليهود، وهذا التنبؤ نشر فى حينه! أما اليهود الصهاينة فقد أطروا على شوجى أفندى بما يمكن أن نسميه إطراء دينيا فالكلام كما يقولون لا يكلف شيئا، وعندما يقولون عن شوجى أفندى حفيد البهاء إنه " مجد يهوده الذى تجلى بنوره على مقربة من جبل الكرمل وأضاء الكون كله" فلن يطالبهم أحد بتسديد فاتورة الكلام خاصة وأن يهوه هو الإله اليهودى رب الجنود وليس رب أحد آخر ، فهل كان اليهود بالفعل يعتبرون حفيد البهاء هو تجلى لإلههم كما يقول المستشرق جولد تسيهر فى كتابه (العقيدة والشريعة فى الإسلام). ... لكن هناك بعدا آخر سياسيا يتعلق بتلك المسألة التى تبدو أنها دينية، بينما تلعب فيها السياسة ويلعب الاجتماع دورا آخر ومخططا طويل المدى يدخل فيه – دائما - بين البهائية والإسلام (الذى يمثله حكومات ودول إسلامية) طرف ثالث هو غالبا الأعداء المرحليون أو الإستراتيجيون للمسلمين أو دولهم ، ففى بداية الدعوة البابية تدخلت الحكومة الروسية عبر ممثيلها فى إيران وبإيعاز من جهازها الاستخباراتى لتهيئة الأسباب لوأد الحركة البابية استجابة لمصالحها السياسية فى إيران فى ذلك التاريخ، وما تدخل السفير الروسى فى إيران لإنقاذ الحركة وإنقاذ زعمائها من الموت والسجن أكثر من مرة إلا دليل على ذلك وليس كما تقول الرواية البهائية - التى فضحت تلك العلاقة - إن السفير الروسى كان من ضمن الذين تأثروا بشدة من الاضطهاد الذى وقع على البابيين وشراسة التعذيب الذى لا قوه ، وتصف روايتهم كيف أنه فى اليوم التالى لإعدام الباب أخذ السفير الروسى معه أحد الرسامين وطلب منه تسجيل تلك الحادثة المهمة على الورق، هذه اللوحة التى بقيت تعطى فكرة عن ملامح الباب الذى كان وجهه الجزء الوحيد من بدنه الذى لم يمسه الرصاص. بل تذهب الرواية البهائية إلى أكثر من ذلك، حين تقول إنه بعد إطلاق سراح البهاء (خليفة الباب) من سجن (السياه جال) وصدور الأمر بنفيه مع عائلته إلى العراق، والعرض الرسمى السفير الروسى (بإيران) على بهاء الله أن يذهب إلى روسيا ليعيش مكرما فيها .. تمضى الرواية البهائية إلى أبعد من ذلك حين تقول فى معرض إظهار طاعة البهائيين للحكومات الوطنية فتقول : " ولكن بهاء الله رفض تلك الدعوة (دعوة السفير الروسى) وأعلن عن رغبته فى إطاعة أوامر الحكومة الإيرانية" وبالفعل نفى البهاء إلى العراق ولكن السفير الروسى أصر على أن ترافقه إحدى الفرق الروسية مع باقى المنفيين إلى الحدود العراقية عبر جبال كردستان ، بالإضافة إلى الفرقة العسكرية التى أرسلتها الحكومة الإيرانية لمرافقته، وليس هناك معنى لكل ما سبق إلا أن الروس كانوا حريصين جدا على حياة هؤلاء لإتمام مهمتهم وذيوع وانتشار أمر البابية ومن بعدها البهائية، لإشاعة الاضطراب السياسيى والاجتماعى فى طهران وما حولها، وفى الحرب على الإسلام الذى يقف على حدود روسيا، وهل هناك رأس حربة توجه إلى صدر المجتمع الإسلامى وحكوماته ودوله أقوى وأحد من عقيدة تشتت المسلمين وتفرقهم ؟ .. وللحديث بقية