لم أر في الدكتور محمد البرادعي في بعض الأحيان. أكثر من بالونة اختبار. شخص جاء من الخارج.. ولا أريد أن أقول "موفد من الخارج" في توقيت محسوب بدقة لمهمة محددة وبالغة الأهمية. أما التوقيت. فهو قرب انتخابات الرئاسة في مصر عام 2011 والأسئلة الكثيرة التي تدور في الخارج حول: من القادم لقيادة مصر وهل يعيد الرئيس مبارك ترشيح نفسه لولاية جديدة وإذا لم يكن فمن البديل.. وكل ما يمكن أن ينعكس نتيجة ذلك علي مستقبل مصر وسياساتها الداخلية والخارجية ودورها الاقليمي والعالمي.. إلي آخره. وأما المهمة فهي "فك شفرة الحياة السياسية المصرية" لإظهار كل ما فوق وتحت السطح فيها من قوي وتيارات. حتي تبدو اتجاهات الريح في الداخل. ويعرف كل من له اهتمام بمصر أو مصلحة معها. من قوي الخارج. كيف يضبط بوصلته من الآن.. وفي أي اتجاه. ربما لأن الحياة السياسية المصرية - بالنسبة للخارج - لا تفصح عن نفسها بما يكفي لمعرفة القوي والتيارات الحقيقية فيها والأوزان النسبية لكل منها في ظل وجود ما نسميه بالأغلبية الصامتة أو العازفة عن المشاركة السياسية. وربما لأن الخارج لا يعرف بالقدر الكافي حقيقة ان النظام السياسي المصري يقوم علي أسس دستورية مستقرة ويملك آليات ذاتية لانتقال السلطة في كل الظروف أو لعله - أي الخارج - لا يصدق ذلك. في ظل الدعايات التي تنطلق من الداخل للأسف بأن هناك مخططات لتوريث السلطة أو غير ذلك. فكل ما أتي به البرادعي أو طرحه من أفكار وآراء. لا يتفق علي الاطلاق. لا مع ماضيه العملي. ولا مع تركيبته الشخصية.. بل وتبدو أفكاره وآراؤه في كثير من الأحيان غير متسقة حتي مع بعضها البعض. ربما كان بعض ذلك مقصودا. لأن طرح الأفكار والآراء الصادمة والاستفزازية. يبدو - أحيانا - طريقا سهلا لاثارة الآخرين. واستدراجهم للبوح بما يخفون. والاعلان عما يسرون. *** * أما ان الأفكار والآراء التي طرحها البرادعي لا تتفق مع ماضيه. فالرجل قضي نصف حياته الوظيفية دبلوماسيا في الخارجية المصرية. ونصفها الآخر موظفا دوليا في الوكالة الدولية للطاقة الذرية حتي أصبح مديرا عاما لها لمدة 12 سنة. الدكتور البرادعي - إذن - صغر أم كبر.. قيادة إدارية وليس قيادة أو زعامة سياسية. وكل حياته وتعاملاته السياسية حتي مع كل قادة وزعماء العالم انحصرت في الشئون الخارجية والدولية. ولم يضبط يوما متلبسا بالاهتمام بالشأن الداخلي المصري إلا بالقدر الذي يهتم به السائح أو الزائر الأجنبي حتي وهو يقتحم الساحة السياسية المصرية بعد تقاعده من الوكالة. * وأما ان الأفكار والآراء التي طرحها لا تتفق مع تركيبته الشخصية.. فإن كل الذين يعرفون البرادعي ويتابعون مسيرته. يعرفون جيدا أيضا ان هذا الرجل الذي جاء يتحدي - فجأة - النظام السياسي لبلده. وينعته بكل مؤسساته بعدم الشرعية. ويطالب بتغيير الدستور ويحرض الشباب علي النزول للشارع. لم يكن في حياته أبدا "شخصية تصادمية" إلي هذا الحد.. وليس في سجله مواقف توحي بذلك. وإلا ما وصل إلي مقعد رئاسة الوكالة الدولية للطاقة الذرية. ولما أعيد انتخابه في هذا الموقع لثلاث فترات متتالية مجموعها 12 سنة. فالرجل مثلا. أذعن لأمريكا حين جاءت به إلي هذا المنصب. وفرضت عليه ألا يقترب من الملف النووي الإسرائيلي لأنه "خط أحمر" فانصاع لذلك. وأغلق أدراجه علي هذا الملف 12 سنة كاملة دون أن يرفض أو حتي يحتج. إلي أن جاء المدير الياباني الجديد للوكالة "أماتو" لينال شرف أنه أول مدير للوكالة يطرح الملف النووي الإسرائيلي علي مائدة النقاش والبحث. والرجل مثلا حين كان متأكدا من ان "عراق صدام حسين" لا يملك أسلحة دمار شامل ثم أخذ الرئيس الأمريكي بوش تقريره وتقرير رجاله في الوكالة حول هذا الموضوع وألقاه وراء ظهره وقام بغزو العراق. لم يقدم استقالته من الوكالة احتجاجا علي عدم احترام تقاريرها أو علي غزو دولة عربية بادعاءات لديه ولدي وكالته ما يؤكد كذبها.. بل ولم يلوح حتي بهذه الاستقالة وهو أضعف الإيمان.. ولذلك كافئوه علي هذين الموقفين بجائزة نوبل له وللوكالة. كيف - إذن - لرجل هذه تركيبته الشخصية غير التصادمية. أن يبدو بهذا الاستئساء وهو يقتحم الحياة السياسية المصرية لأول مرة في حياته. فيهاجم نظاما سياسيا سبق أن كرمه.. وأحزاباً رحبت به وفتحت أبوابها لاستقباله. إلا إذا كان هذا دوراً مرسوماً يؤديه؟! * أما أن الأفكار والآراء التي يطرحها البرادعي. تبدو أحياناً غير متسقة مع بعضها البعض. فهو. منذ ظهر في الساحة الداخلية وهو يقدم لنا كل يوم نموذجاً لذلك التضارب.. فالرجل الذي يصف الدستور الحالي بأنه غير شرعي يتحدث أحياناً عن "حقه الدستوري" في الاحتجاج والنزول للشارع.. والرجل الذي وصم كل الأحزاب بأنها غير شرعية يتعامل الآن معها.. ومن يتحدث عن الدولة المدنية يتحالف مع الإخوان.. إلي آخره. وغير الآراء والأفكار. هناك تناقض المواقف. فالرجل الذي يريد أن يقود التغيير في الداخل. يقضي معظم أيامه في الخارج. والرجل الذي يسعي لأن يكون قيادة سياسية. يتصرف بعقلية بيروقراطية بحتة. إذ يعتمد في حشد المؤيدين علي "جمع التوقيعات" وكأنه موظف مكلف بدفتر الحضور والانصراف. وهو يغرق نفسه في الأحلام والأرقام ويتحدث عن ذلك بصورة تكاد تحوله - كما قال النجم عادل إمام في حديث له أمس الأول - إلي شخصية كوميدية. فهو - أي البرادعي - قادر علي تغيير النظام - إن أراد - "في يوم وليلة".. وهو مستعد ان يضع برنامجاً انتخابياً في "دقيقتين".. وجاهز للنزول في مظاهرة للشارع إذا توفر له "250 ألف مواطن" ينزلون معه.. أما إذا جمع "20 مليون توقيع" يؤيد أصحابها مطالبه فسوف يذهب بها إلي القصر الجمهوري للمطالبة بالتغيير "هذه كلها تصريحات موثقة له". ثم هو يترك 80 مليون مصري في الداخل. بكل مشكلاتهم وتطلعاتهم. ويجري وراء بضعة ملايين في الخارج. ويزعم أنه كسر أو يكسر "حاجز الخوف" لدي المصريين في الداخل بينما المصريون - منذ التعديلات الدستورية التي طرحها الرئيس مبارك عام 2005 - ينزلون إلي الشوارع والميادين. بمناسبة وبغير مناسبة. في مظاهرات واعتصامات واضرابات فكيف يفعل ذلك خائفون. إنه المستفيد رقم واحد حتي الآن وقد يبدو هذا السيناريو الذي أطرحه عن المهمة التي يقوم بها البرادعي - مكلفاً أو متطوعاً رداً لجميل "الخارج" عليه - سيناريو خيالياً. أو يستند إلي نظرية المؤامرة. لكن يعزز هذا السيناريو. عندي. أمران: * الأمر الأول: أن البرادعي - شخصياً - هو المستفيد رقم واحد مما يقوم به. دعك من شعارات التغيير والديمقراطية. وأن الرجل - يا حرام - وبعد 30 سنة خارج مصر - يريد لمصر وللمصريين حياة أفضل.. إلي آخر هذا الكلام. وتعال نسأل: ** لو أن البرادعي لم يفعل ما فعله. ولم يقتحم مجال السياسة المصرية. ويطرح ما طرح من أفكار. واكتفي بالحياة بعد 31 ديسمبر الماضي كموظف دولي كبير متقاعد.. هل كان أحد سيهتم به وبأخباره وتحركاته وتصريحاته سواء في مصر أو في الخارج مثلما يحدث الآن؟! إن الرجل الذي أدمن حياة الشهرة والأضواء خلال عمله الدولي. والذي يتمسك بذلك واصفاً نفسه في أحد أحاديثه بأنه "أشهر مصري في العالم". قد نجح في ان يضمن لنفسه وجوداً قوياً ومستمراً علي الساحة الإعلامية الداخلية والخارجية. ليس بوزنه الشخصي كموظف دولي كبير متقاعد. وانما بحجم ووزن بلده مصر التي يزعم أنه جاء لتغييرها. وحجم ووزن قيادتها السياسية التي يحاول ان يتحداها. ولو أنه لم يفعل ذلك. لكان نصيبه من الاهتمام مساوياً فقط لوزنه الشخصي.. خبراً صغيراً في جريدة محلية هنا أو في الخارج. حين يدعي إلي إلقاء محاضرة أو المشاركة في مؤتمر في مجال تخصصه الأكاديمي أو تخصصه الوظيفي. * الأمر الثاني: ان دور البرادعي علي الساحة تراجع. وحركته تخبطت. وجماعته انفرطت من حوله.. فقط عندما أعلن الحزب الوطني انه لن يفتح ملف انتخابات الرئاسة أو يفصح عن اسم مرشحه فيها قبل سنة من الآن.. أي في يونيو .2011 لقد أسقط في يد البرادعي ومن معه بعد هذا التصريح.. وجد نفسه في طريق مسدود.. الصندوق الأسود الذي يسعي لفتحه أمام العالم أعيد إغلاقه.. لا يوجد لاعب أو فريق يلاعبه. ولذلك وصفت هذا الإعلان في حينه في هذا المكان. بأنه "ضربة معلم" وأنه أربك حسابات. وأجهض مخططات. وأحبط تطلعات ومزايدات. ومع ذلك.. دعوني أعتبر أن تراجع البرادعي "تكتيك" من جانبه.. وأن انفصاله عن الجمعية الوطنية للتغيير أو انفصالها عنه.. "لعبة". وأن الرجل وجمعيته يعيدان شحن بطارياتهما. حتي يفاجآنا بما لم نتوقعه أو نتحسب له. وهذا يحتاج إلي وقفة أخري. تركيا.. إيران.. ومصر.. بعد 3 أسابيع خلال الأيام الأولي من الشهر الحالي. وعقب وقوع الجريمة الإسرائيلية ضد سفن "قافلة الحرية" التي كانت متجهة إلي غزة. ومقتل تسعة من النشطاء الأتراك علي ظهرها بأيدي الجنود الإسرائيليين يوم الاثنين 31 مايو. بدت الصورة الاقليمية علي النحو التالي: * تركيا: تهديدات تركية عالية الصوت لإسرائيل بقطع العلاقات وفك الارتباطات. جعلت بعض السذج يتصورون أن مقر القيادة الاقليمية للشرق الأوسط قد انتقل إلي أنقرة. وأن الأتراك كما سبق أن كتبت قادمون لتحرير فلسطين. * إيران: دخلت المزاد. وأعلنت أنها ستطلق سفينتين محملتين بالمساعدات والمتطوعين إلي غزة. وقيل إن 70 ألفا من شباب "الحرس الثوري" مستعدون لهذه المهمة. وحتي الأسبوع الماضي. كان مسئول الهلال الأحمر الإيراني يعلن أن السفينتين جاهزتان. وفي انتظار الضوء الأخضر من وزارة الخارجية الإيرانية للانطلاق. * مصر: أصدر الرئيس مبارك قرارا بفتح معبر رفح البري لأجل غير محدد. وفي الاتجاهين لتسهيل مرور الأفراد من الفلسطينيين. والبضائع. والمساعدات. وبالتالي إجهاض الهدف الإسرائيلي الذي يرمي إلي منع دخول المساعدات للفلسطينيين في القطاع. تعالوا نري الصورة اليوم الخميس 24 يونيه علي نفس المحاور الثلاثة: * تركيا: لم تقطع علاقات.. ولم تفك ارتباطات.. ولم يعد يرتفع فيها صوت واحد ضد إسرائيل. لا فيما يتعلق بهذه الجريمة. أو بأي سلوك إسرائيلي آخر تجاه الفلسطينيين. علي العكس.. تركيا تجري الآن مباحثات سرية مع إسرائيل لتسوية قضية "أسطول الحرية" ومنع أي تأثير سلبي لها علي العلاقات بين البلدين. بينما يرتفع صوتها وتتصاعد تهديداتها ضد الأكراد. الذين تطاردهم بطائرات إسرائيلية الصنع داخل حدود دولة عربية هي العراق. * إيران: انشغلت في مواجهة عقوبات مجلس الأمن ضدها بسبب ملفها النووي. والعقوبات الاضافية التي اتخذتها امريكا والاتحاد الأوروبي. وانتهت إلي اعلان تأجيل سفر سفينتي المساعدات الإيرانيتين إلي غزة. لأجل غير مسمي. * مصر: مازال معبر رفح مفتوحا.. مازالت دعوتها للمصالحة الفلسطينية قائمة. وجهدها من أجلها مستمر.. اتصالاتها التي تستخدم فيها كل وزنها الاقليمي والدولي تتصاعد مع كل الأطراف المؤثرة في العالم من أجل إنهاء الحصار المفروض علي الفلسطينيين في غزة والضفة.. هي التي تتصدي لمخطط إسرائيل لهدم 22 منزلا للفلسطينيين في القدس. باختصار.. مصر مشغولة بالملف الفلسطيني طول الوقت.. عملا.. لا تمثيلا.. فوق وتحت الأرض. وليس أمام الميكروفونات أو علي الشاشات. لأن ظهور أي قوة اقليمية غير عربية علي الساحة العربية مؤقت.. والقضية الفلسطينية بالنسبة لتركيا أو إيران كما ذكرت في مقال سابق مجرد ورقة في ملفات أخري. تلعب بها عند الحاجة. ولتحقيق مصلحة وطنية خاصة بها. وتبقي مصر هي الأبقي.. وخارج المنافسة. وهذا درس مكرر لكل من لم يقرأوا التاريخ.. أن يقرأوا الحاضر.