تطالعنا الأخبار كل يوم بنبأ جديد عن انفراد دولة أو منظمة أو قرية بخاصية أو سمة أو مرتبة مميزة عن غيرها من الدول أو المنظمات أو القرى. فمثلاً إعلان دولة كذا خالية من شلل الأطفال، أو القرية الأكثر فقراً، أو اختيار عاصمة كذا عاصمة أبدية للثقافة العربية، أو إعلان مدينة كذا محمية طبيعية أو أثرية، وهكذا. ولكنني تخيلت أنني طالعت يوماً أن مصر أعلنت أنها بلد خالية من فيروس الفساد. وبالقطع كل من يسمع هذا الإعلان أو يطالعه مستقبلاً في الصحف سيتهمني بالتفاؤل لأن التفاؤل أصبح هذه الآونة مثل الرجل الذي توجد بحوزته قطعة من المخدرات بغرض التعاطي لا الاتجار، فأنفلونزا مميتة متربصة بنا، وفيروس "سيط مدمر لأكبادنا البسيطة، واختلاط مياه الصرف الصحي بمياه الشرب، وقطارات تخرج عن قضبانها أو بعض عرباتها تنفصل عن القطار معلنة عصيانها النهائي. مثل هذه الحوادث أصابت المصريين بحالات مستدامة من الحزن والاكتئاب وانتظار المصيبة، بالإضافة إلى ما تنفرد به طبيعة الشخصية المصرية، لا تلك التي تحدث عنها ووصفها العبقري جمال حمدان، بل طبيعة الهم والنكد والحزن وكراهية الفرح والابتهاج.لكني مصر على هذا الرأي، ولما لا ، والصحف القومية تؤهلنا لتلقي مثل هذا الخبر كل صباح. ولو سألت أي عابر أو سائر بالطريق- سواء في السيارات أو في توك توك السباقات- عن مفهومه عن الفساد، فلن يخرج عن نطاق الحياة السياسية والاقتصادية، بمعنى بسيط السياسة والفلوس. وسيظل يحكي لك ويسرد قصصاً حقيقية وأخرى مؤلفة وخيالية عن فساد بعض المسئولين وكبار الموظفين ، وأخباراً لا تنتهي. ولأن الفساد كظاهرة اجتماعية بدأت تتنامى بسطوة ونفوذ في المجتمعات التي تدعي أنها خرجت من عنق الدول النامية، بل وأصبحت مثل السويد والنمسا وسويسرا. فمن الصعوبة إيجاد تعريف محدد للفساد، لاسيما أن المصطلح نفسه مصطلح فضفاض وواسع وغير محدد. وإذا أردنا أن نحدد تعريفاً للفساد يمكن أن نطبقه على كافة ممارساتنا اليومية، فيعني إساءة استغلال أية سلطة عامة في الممارسات والأنشطة اليومية الحياتية. والفساد والرغبة وجهان لعملة واحدة، فالفساد إطلاق الفرد لرغباته العنان دون تقييد، وهذا بالطبع يشمل التعدي على حقوق الآخرين وحرياتهم. وأحمد الله أن أساتذة علم الاجتماع في جامعاتنا المصرية التي لا أمل من التذكير بفشلها في دخول سباق محموم بين الجامعات العالمية، قد اجتهدوا في تحديد أنواع وأشكال وصور الفساد المتنامي في المجتمعات الراكدة، مثل الرشوة، والمحسوبية أي التحيز ومحاباة الأهل والأقارب والجيران. والاحتيال الذي يشير إلى كافة معاني الغش والخداع والتحايل. وأخيراً الابتزاز وانتزاع أي شئ ذي قيمة من الآخر قسراً وقهراً. والغريب أنه بالرغم من اجتهاد أساتذة الاجتماع في تحديد صور وأشكال الفساد، إلا أنني لاحظت أن معظم المؤلفات والكتب المصرية في هذا المجال لم تتناول كيفية القضاء على ظاهرة الفساد المتنامية، اللهم إلا قلة منهم ارتدوا عباءة الداعية والمرشد والواعظ وأرجعوا العلاج إلى الدين، دون تحديد دور الدين في القضاء على الفساد ، أو الإشارة إلى الإجراءات التي سيتخذها الفرد من الدين الذي هو أكثر عمومية، من أجل القضاء على الفساد والفاسدين والمفسدين. ويبدو أننا اقتربنا فعلاً من الإعلان عن أننا بلد خالية من الفساد، وليس ذلك بسبب الجهود المبذولة في مكافحته، أو التجائنا الجوهري والشكلي نحو الدين، بل لأننا لم نحدد إجراءات وطرق ومواجهة الفساد أو مقاومته، أو القضاء عليه. ولك أن تطالع ما أشار إليه المستشار المحترم جودت الملط رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات أن الفساد ليس مقصوراً على مصر وحدها، بل هو ظاهرة عالمية، وأشار إلى أن كلمة السيد الرئيس مبارك بأن المشكلة في مصر هي مشكلة إدارة ورقابة ومحاسبة، كما أن مسئولية الحكومة هي مسئولية تضامنية، وليست رؤية منفردة لكل وزير. وتخيل معي أن سعادة المستشار الملط، وهو رجل حكيم ومخلص للبلاد أشار إلى ضعف التواصل بين المسئولين في مصر والأجهزة الرقابية، وذكر رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات أن المشكلة أنه ليس لدينا الجدية في مكافحة الفساد. والحقيقة يبدو أننا فقدنا الجدية في أية مهمة نقوم بها، حتى في مواجهة مشكلاتنا الداخلية والخارجية وأصبحنا لا طاقة لنا بها، ومع ذلك فإننا لا نزال نسعى للرقي بهذا الوطن، لا من منطلق الأغنية المشهورة التي تؤكد أن مصر بانتظارنا لأن نعطيها لا أن نأخذ منها، ولا من منطلق الوطنية التي تظهر فقط في مدرجات ملاعب كرة القدم التي تفشل فيها فرقنا في تحقيق الفوز والنصر، ولا في استقبال أفواج الحجاج العائدين في المطار، ولكن لسبب بسيط هو أن كلاً منا له ولد أو بنت سيتركه يعيش على أرض هذا الوطن. فكلنا مغادرون لا محالة ، وهم سيمكثون فوق أرض المحروسة، فأنا أحلم- وبالتأكيد أنت أيضا - أن يعيش ولدي محتفظاً بماله دون أن يعطيه لأحد ليسهل له مهمة الحصول على شيء معين، وأحلم أن تعمل ابنتي مطمئنة هادئة بغير تحرش رئيسها في العمل كنوع من أنواع الفساد. وأوجز علاج الفساد ومكافحته بل والقضاء عليه في إعطاء مصل الفضيلة، التي تعد علماً لا يُعلَّم ولا يُدرَّس، وكما يقول أرسطو عن الفضيلة بأنها إدراك الوسط بين طرفين كليهما رذيلة، فواجب كل من السياسي وإمام المسجد وراعي الكنيسة والمعلم، والأكاديمي والإعلامي والصحفي أن يجعلوا نفوس المواطنين تكتسب الفضيلة، فالفضيلة معرفة ، وعقيدة بلا فضيلة لا تصح، وعمل بلا فضيلة لا يصلح، لعن الله الفاسدين والمفسدين.
دكتور بليغ حمدي إسماعيل دكتوراه الفلسفة في التربية