في ثوانٍ معدودة، وبابتسامة واثقة، نطق علي صالح بالإجابة الصحيحة. ارتسمت الدهشة على وجه السيدة التي لم تكن تتوقع أن الطفل ماسح زجاج سيارتها في محطة الوقود بقطعة قماش مهترئة، سيحل مسألة حسابية معقدة أسرع من هاتفها الذكي. التقطت الموبايل لتوثق تلك اللحظة، ولم تكن تعلم أن هذا المقطع القصير سيحمل "علي" من هامش الشارع المترب إلى قلب ملايين المتابعين الذين أطلقوا عليه لقب "عبقري الرياضيات الضائع". خلف هذه اللقطة العفوية التي أثارت إعجاب الملايين، تختبئ قصة تمثل مرآة لمأساة أكبر: مأساة العباقرة الصغار الذين يولدون بعقول استثنائية في ظروف تسحق أحلامهم قبل أن تُزهر. علي، صاحب ال13 عامًا، لا يملك رفاهية الذهاب إلى المدرسة بانتظام أو حتى النوم في فراش آمن. عقله يشبه الآلة الحاسبة نعم، لكنه منهكًا في جسد طفل أعياه الفقر، يعيش وسط رماد بيت محترق، محاصرًا بين ذكاء فذ وواقع مرير. في رماد بيت محترق يعيش علي مع أسرته المكونة من 6 إخوة، وأب مريض وأم منهكة، في بيتٍ متصدع فقد ملامحه بعد حريق أتى على محتوياته. على الجدران هنا، يختلط السواد برائحة الدخان، والأثاث تآكل، بينما النوافذ فقدت زجاجها، ليدخل برد الشتاء وحر الصيف بلا رحمة. في هذا المكان الضيق، تنام الأسرة كلها متلاصقة، يتقاسم أفرادها البطاطين القديمة على أمل ألا يتكرر القدر القاسي الذي أخذ منهم بيتهم ذات ليلة. يرقد الأب على سرير متهالك، عاجزًا عن العمل بعد عملية جراحية في المعدة. تخرج الأم كل صباح لتجمع الخردة من الأسواق، وتبيعها عائدة ببضع جنيهات لا تكفي قوت اليوم. تقول: "كل اللي احنا فيه مش مهم.. أنا نفسي بس حد يتبنى علي ويعلمه صح.. ابني ده موهوب وربنا عاطيه نعمة كبيرة، لكن إحنا اتحرق بيتنا وخسرنا كل حاجة، ومش قادرين نصرف على تعليمه.. هو نفسه في المدرسة، بس الظروف جبرته يشتغل". عبقرية تُعوقها المعاناة حين تجلس مع علي، تبدو ملامحه أكبر من سنه. عيناه الصغيرتان تحملان بريق ذكاء وحزنًا دفينًا في آن واحد. نلك الموهبة التي أدهشت الناس على منصات التواصل في فيديو عفوي، لم تولد في فصل دراسي أو مركز للموهوبين، بل على يد أمه التي لا تعرف القراءة والكتابة. "أنا اتعلمت الحساب على إيد أمي، رغم إنها مش متعلمة، وهي بتبيع الخردة كانت بتعرف تحاسب الزباين بسرعة، وأنا حاولت أقلدها. بقيت أحب الأرقام وأعمل فيها لعب، لحد ما بقيت بحل أي مسألة أسرع من الآلة الحاسبة"؛ يقول علي في لقاء خاص مع "مصراوي". علي مسجل رسميًا في الصف السادس الابتدائي، لكنه لا يحضر دروسه بانتظام. يذهب أحيانًا إلى المدرسة مرهقًا من السهر في الشارع، فينام على مقاعد الفصل، ليعود بشكاوى المعلمين الذين ظن بعضهم في البداية أنه كسول، قبل أن يكتشفوا أن تعبه ليس تقصيرًا بل نتيجة شقاء مبكر. يقول شقيقه: "إحنا أرزقية بنبيع ذرة، وعلي من صغره بيقول عايز يساعد.. بينزل يمسح عربيات ويبيع مناديل، لكن لما شوفناه بيحسب أرقام كبيرة بسرعة اتفاجئنا بيه. هو عبقري، بس مظلوم". مهندس كمبيوتر بحذاء حافٍ رغم أن الفيديو جعل "علي" حديث الناس وأثار تعاطف الملايين، إلا أن حياته لم تتغير كثيرًا. ما زال يستيقظ فجرًا ليمشي حافي القدمين على أرضية البيت المحترق، يساعد أمه في حمل أكياس الخردة، ثم يتجه إلى الشارع حيث ينتظره رزقه القليل بين ضجيج السيارات وحرارة الأسفلت. لكن ما يميزه عن غيره هو أن داخله حلمًا كبيرًا يرفض أن يموت. علي لا يريد أن يظل عالقًا في دور "عبقري الرياضيات الضائع" الذي يمسح زجاج السيارات. ينتظر فرصة حقيقية تحوّل ذكاءه الفطري إلى شهادة علمية تغير مصير عائلته. "نفسي أتعلم وأكبر وأبقى مشهور بعقلي مش بس بالفيديو.. نفسي أجيب شهادة كبيرة وأبقى مهندس كمبيوتر، عشان أغيّر حياة أمي وأبويا، وأبني بيت جديد مكان البيت اللي اتحرق". "علي صالح" ليس مجرد حكاية عن طفل فقير ظهر في مقطع فيديو، بل هي تساؤل مفتوح موجه للمجتمع: كم من العقول الاستثنائية تضيع كل يوم بين رماد الفقر والأحلام المؤجلة؟