في منتصف الطريق بين الحلم والوجع، وقف "أحمد" مذهولًا أمام الحوض. لم يكن الحوض كبيرًا، ولا عميقًا، لكنه كان أعمق من حزنه، وأكبر من فجيعته. جاء إلى وادي النطرون حالمًا بلقمة عيش نظيفة، فاستقبلته الأرض الجديدة بأقسى ما يمكن أن يُستقبل به: فقدٌ لا يواسيه الزمن. من البرلس إلى المجهول لم يكن أحمد مجرد أب بسيط، بل كان سفينة تمخر بحور الحياة حاملةً عائلة صغيرة تبحث عن ميناء أمان. ترك بلدته الهادئة "برج البرلس"، وسار خلف حلم العمل في مزرعة بقرية الحمراء، متسلحًا بالإصرار وزوجة صابرة وثلاث بنات كأنهن الورد حين يبتسم. لم يكن يعرف أن هذا الحلم يحمل بين طيّاته خنجرًا. الضحكات التي غرقت كان اليوم قائظًا، والحرارة تسد الأفق. البنات الثلاث – سندس (11 عامًا)، ساندي (7 سنوات)، ونورسين (3 سنوات) – ركضن كأن الشمس تطارِدهن. وجدن ضالتهن في حوض مياه ضيق، بالكاد يسع أجسادهن الصغيرة. ظنّتهن الأم لعبة بريئة... واعتبره الأب لحظة انتعاش عابرة. لكن الماء كان له رأي آخر. في ثوانٍ، تحوّل الضحك إلى استغاثات، ثم إلى صمت ثقيل. لم تجدن السباحة، ولم تجدن فرصة للنجاة. حاول الأب، حاول العمال، لكن الوقت كان قد انتهى... وكانت الطفولة قد غادرت. بلاغ... وجثث ثلاث بلاغ رسمي تلقاه مركز شرطة وادي النطرون: "ثلاث طفلات غرقًا داخل مزرعة". انتقل الجميع، لكن المأساة كانت قد حدثت. ثلاثة أكفان صغيرة، وثلاثة أسماء ستُكتب للأبد في دفتر الحزن: "سندس أحمد عبد المقصود – 11 سنة، ساندي أحمد عبد المقصود – 7 سنوات، نورسين أحمد عبد المقصود – 3 سنوات". المزرعة التي كانت حلمًا روى الأب بصوت مبحوح: "استأجرت المزرعة، جلبت بناتي وزوجتي لنعيش هنا ونبدأ من جديد. وفي يوم شديد الحر، دخلن الحوض... ولم يعد شيء كما كان." الحوض الذي تبلغ مساحته 2×3 متر، وعمقه متران فقط، أصبح فجأة كفيلًا بإحداث شرخ لن يلتئم أبدًا. شرخ في قلب أب، وانكسار في ضمير أم، ودرس قاسٍ في الحياة التي لا تمهل. "لم نكن نريد أكثر من حياة بسيطة" الأم الشابة – التي لم تتجاوز ال29 – لم تنطق إلا بجملة واحدة، قالتها كأنها تخاطب السماء: "جينا ندور على حياة، خدتوا مننا الحياة كلها." الأبوان لم يوجها اللوم لأحد. قالا إنها مشيئة الله، لكن العيون المبللة بالدمع كانت تقول ما لا يقال. رحيل بلا إنذار لم تكن البنات مريضات. لم يكن هناك حادث طريق. لم يكن هناك عدوان. كان هناك فقط حوض ماء، وحلم صغير، و3 قلوب توقفت دفعة واحدة. الرحيل جاء فجأة، مثل الضوء حين يُطفأ. وفي الختام ليست هذه قصة غرق. بل قصة أمل اصطدم بواقع قاسٍ. قصة أب خسر كنوزه الثلاثة في لحظة واحدة. ربما لا يكتب التاريخ أسماء "سندس" و"ساندي" و"نورسين"، لكن قلوب والديهن ستبقى تكتب أسماءهن كل يوم. في كل تنهيدة، في كل حلم، في كل نظرة إلى المزرعة التي تحوّلت من بيت رزق... إلى قبر مفتوح لا يُغلق أبدًا.