شاءت إرادة الله جل جلاله الذي يخرج الحي من الميت ، ويخرج الميت من الحي ، ويرزق من يشاء بغير حساب أن يجعل من العسر يسرا ، ومن الكرب فرجا ، ومن الهم فرحا ، ومن الشدة رخاء ، ومن الضيق سعة ، ومن الآلام آمالا .. فما وجد عُسر إلا وكان معه يسران ، كما قال الله عز وجل: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [سورة الشرح:5] وقال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن : ( لن يغلب عسر يسرين ). وعلي هذا ، ربّى الله عز وجل أنبياءه -وهم في أشد اللحظات ضيقا وحرجا - ألّا ينشغلوا بالجراح والآلام ، عمّا ينتظرهم في الغد المشرق من البشريات والآمال . تأمل نبي الله يوسف – عليه السلام – عندما ذهب به أخوته وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب ، أوحى الله إليه – وهو في غيابة الجب – بالغد المشرق الذي سيتمكن فيه ، وسيخبرهم بما فعلوه .. {فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} [الآية 15، يوسف]
وقد كان .. ، وأنبأ أخوته بما فعلوا به وبأخيه ، بعد أن مكّن الله له ، وجعله علي خزائن الأرض .. {قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ} [الآية 89 ، يوسف] وتأمل ما حدث ل أم موسى إذ أحيط بها – وهي الأنثى – وهي خائفة تترقب ، تحتضن ولدها ، وفرعون يذبّح الأطفال من حولها .. فبينما هي كذلك إذ أوحى الله إليها بأن تلقي ولدها وفلذة كبدها في اليمّ ، ووعدها – سبحانه – برده إليها ومن ثمّ فعليها ألّا تخاف ولا تحزن .. {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7] وقد كان ، ورده الله إليها ، - بعد أن سخّر له فرعون وهو لا يشعر – فكانت ترضع ولدها وتأخذ أجرها ..! {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [القصص: 13] وما حدث مع نبي الله يوسف، ومع أمّ موسى حدث مع النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم ، إذ اضطر للخروج والهجرة بعد ما ضاقت مكة به وبدعوته ، وتآمر القوم علي الخلاص منه .. {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] وبينما النبي – صلى الله عليه وسلم – في طريقه – وهو مطارد – إلي المدينة ، أوحى الله إليه بقوله تعالى : {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص:85] وقد كان .. وفتح الله عز وجل له مكة ، وأتم نعمته عليه ، ونصره نصرا عزيزا ..
بهذه الروح ، وتلك التربية القرآنية التي تربّي النبي صلى الله عليه وسلم عليها وتشبّع بها ، ربّي عليها أصحابه ، رباهم علي أن يرتفعوا فوق الأحداث ، وألّا ينشغلوا بها عما ينتظرهم في الغد من بشريات الخير ونسائم الرحمة . عن سلمان الفارسي – رضي الله عنه – قال : ( ضربت في ناحية من الخندق , فغلظت عليّ صخرة ، ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – قريب مني ، فلما رآني أضرب ورأي شدة المكان عليّ ، نزل فأخذ المعول من يدي ، فضرب به ضربة لمعت تحت المعول برقة , قال : ثم ضرب به ضربة أخري , فلمعت تحته برقة أخري , قال : ثم ضرب به الثالثة ، فلمعت تحته برقة أخري ، قلت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، ما هذا الذي رأيت لمع تحت المعول وأنت تضرب ؟ قال : أو قد رأيت ذلك يا سلمان ؟ قلت : نعم. قال : أما الأولى فإن الله فتح عليّ بها اليمن ، وأما الثانية فإن الله فتح عليّ بها الشام والمغرب , وأما الثالثة فإن الله فتح عليّ بها المشرق ) الحديث حسن بطرقه بشّر النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الفتوحات في وقت عصيب ألمّ بالناس ، وصفه الله عز وجل بقوله تعالى : {إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب:10] هذا الجو الخانق جعل أرباب النفاق يتندرون - في ضيق وغيظ – بقولهم : إن محمدا يعدنا كنوز كسري وقيصر ، وأحدنا لا يأمن علي خلائه .! بيد أن ما وعد به النبي – صلى الله عليه وسلم – قد تحقق وفتح الله لرسوله وصحابته بلاد كسري بفارس ، وبلاد قيصر بالشام ، وبلاد اليمن بالجزيرة .
إذا كانت آلام المخاض - مهما اشتدت وطالت - تسفر عن مولود جديد ، فإن الآمال تولد من الجراح والآلام ، ولاسيما لمن سعى إليها بالعمل لا بالأماني والأحلام.! د. إبراهيم التركاوي