حشود تحيط بسفارة العدو الإسرائيلى تنادى بطرد سفيرهم وإنزال علمهم، ملايين تتابع شاشات التليفزيون انتظارا لرد مصرى حاسم على الانتهاك الإسرائيلى الفج.. غضب يتأجج فى الصدور، عداوة تاريخية أزلية تطفو إلى سطح القلب تاريخ مشين من الجرائم والانتهاكات يمر أمام أعيننا كشريط سينما، مجلس وزراء مصغر منعقد منذ ساعات لمواجهة الأزمة وبحث ودراسة الرد الأنسب على الاعتداء الإسرائيلى إلى جنودنا الأبطال فى سيناء وإيقاع شهداء ومصابين بينهم.. كانت تلك هى مفردات المشهد المصرى مع بدء الساعات الأولى من صباح يوم أمس (السبت). انتهى المجلس من صياغة بيانه ووقف وزير الإعلام أمام الكاميرات لقراءته، وبمجرد بدء البيان بكلمتى «مصر تدين» بدأ القلق يتسرب إلى قلوب المنتظرين، فتراثنا العربى من الإدانة والشجب والاستنكار كفيل بجعلنا نكره تلك الأفعال الثلاثة ونقلق بمجرد ذكر فعل واحد منها. وها نحن ندين.. فهل نشجب ونستنكر أيضا؟! الحمد لله.. اكتفينا بالإدانة ولم نشجب ونستنكر، وتقرر استدعاء السفير الإسرائيلى من قبل وزير الخارجية المصرى ومطالبته بأن تتقدم إسرائيل باعتذار رسمى لمصر، وبأن تفتح تحقيقا سريعا حول الأحداث. ولكن.. هل تشفى الحلول الدبلوماسية (المطلوبة فى مثل تلك الأوقات) غليل تلك القلوب الغاضبة (التى ينبغى استيعاب غضبها المبرر والمفهوم والمنطقى)؟! ربما كان ذلك هو التساؤل الذى يقبع فى الخلية الأمامية من خلايا مخ الدكتور عصام شرف ساعتها والذى لم أستطع منع نفسى من تخيله وهو يقف أمام الحوض يملأ يديه بالماء قبل أن يرميه على وجهه أملا فى استعادة نشاطه والتمكن من مواصلة العمل فى تلك الظروف الاستثنائية التى تمر بها مصر. ربما يكون بعدها قد ترك قطرات الماء تنساب على وجهه فى أثناء النظر فى المرآة، بينما بدأ صوت داخلى مألوف يخاطبه على مثل ذلك النحو: «هل تعتقد أن تلك القرارات الدبلوماسية زيادة عن اللزوم تتناسب مع تلك الصورة الجديدة للخارجية المصرية التى ينبغى إيصالها إلى العالم؟! لم يطلب أحد اتخاذ قرار متحمس قد يصل فى حماسته إلى حد الحماقة، ولكن وفى الوقت ذاته لا ينبغى أن يكون القرار حذرا بحيث يصل فى حذره إلى درجة التخاذل. هل جلست مع وزرائك 4 ساعات فى اجتماع ممتد لتدين الحادثة فى النهاية وتقرر استدعاء سفير جهنم بتاعهم وإخباره بضرورة تقديم اعتذار رسمى لمصر؟! وهل يتناسب ذلك مع ما ينتظره الشعب الغاضب من استدعائك له وإخباره بضرورة تجهيز شنطة هدومه والرحيل الفورى عن أرض مصر لحين تقديم الاعتذار وإنهاء التحقيق فى ما حدث؟! ولو كنت جالسا أمام التليفزيون شأنك فى ذلك شأن باقى المواطنين هل كنت سترضى بذلك البيان.. وهل كنت ستتقبله؟!». كانت قطرات المياه تنساب من على وجنتيه وصولا إلى ذقنه قبل أن تسقط كالمظليين فى الحوض.. وكان صوته الداخلى يواصل التقطيم: «أعلم جيدا أن اللى إيده فى الميه مش زى اللى إيده فى النار، وأعلم جيدا صعوبة أن ينتظر شعب كامل قرارا أنت الموكل إليه إصداره، وأعلم أيضا أن لكل قرار تبعاته، وأنه إذا كانت الحماسة غير المهتمة بحسابات التبعات تسيطر على الشارع فإن الحكمة المهتمة بحسابات التبعات هى التى ينبغى أن تسيطر على عقلك.. أعلم كل هذا جيدا، ولكنى أعلم أيضا أنك بصدد أول اختبار تستطيع مصر من خلاله أن ترسى سياستها الخارجية الجديدة وتخبر العالم بشكل عام والعدو الإسرائيلى بشكل خاص أنهم بصدد مصر جديدة، مصر لا تفرط فى حقوق ودماء أبنائها، مصر قوية ترفض الانسياق إلى حماقة متحمسة ولكنها فى الوقت نفسه لا تنساق إلى تخاذل ضعيف.. التوازن.. هذا هو كل المطلوب. أن نكشر عن أنيابنا دون أن نغرسها فى أى عنق، ولكن ينبغى أن يرى العالم أنيابنا وينبغى أن يعلم أننا قادرون على غرسها فى عنق العدو فى أى لحظة»! وبناء عليه.. وعلى غضب الشارع وعدم رضائه عن البيان.. جاء التعديل عليه بعد أقل من ساعة على إصداره.. وتقرر استدعاء السفير المصرى إلى حين تقديم إسرائيل اعتذارا رسميا عما حدث.. وطبعا نحن نعلم أن إسرائيل لن تعتذر. لهذا.. السؤال الآن: هل نحن مستعدون للخطوة التالية؟!