ترك مبارك وصية لكل من عملوا معه بألا يفكروا خارج صندوقه فى الحكم والإدارة، وألا يقدموا أى حلول لأى مشكلة إلا بعد بحث وتأمل قد يأخذ أشهراً أو سنوات. فى عهد مبارك كان الهدف هو الترحيل والتسويف من أجل البقاء فى الكرسى إلى أبد الآبدين وتوريثه إن أمكن للأبناء والأحفاد، وكان الاستعلاء على الناس وشطبهم من كل حساب هو سياسة حكمه غير الرشيد. نعم، بعد الثورة سقط التوريث وتراجع الاستعلاء ولم يعد هناك أحد، لا فى المجلس ولا فى الحكومة يمكن اتهامه بأنه يتعمد الإساءة للشعب المصرى، بل إن الجيش نفسه حمى الثورة منذ بدايتها.. ولكن أين الخلل؟ الخلل وربما المصيبة أن وصية مبارك وصندوقه الأسود جعلا من جاءوا بعده عاجزين عن الخروج منه، حتى لو حاولوا، لأنهم لم يعتادوا فى أى وقت أن يفكروا خارجه. إن بيان رئيس الحكومة أمس الأول خير دليل على التفكير داخل هذا الصندوق، فقد كان باهتا ومتأخرا تماما كما كان يفعل مبارك، وهو بيان يتعامل مع العناوين الفرعية وليس العناوين الكبرى التى تضعنا على أول طريق الإصلاح، تماما مثلما كان يفعل الرئيس المخلوع. فحين يأتى البيان متضمنا قرارا جيدا ينهى فيه (أو يوقف عن العمل كما فسره البعض الآخر) خدمة جميع القيادات والضباط المُتهمين فى قضايا قتل الثوار.. ويضيف: وكلفت وزير الداخلية أيضاً بالإسراع فى تحقيق أقصى درجات الانضباط الأمنى فى الشارع المصرى بما يُعيد له أمنه وأمانه، مع مراعاة كرامة الوطن والمواطن والتأكيد على أن الأمن ضرورة مُجتمعية. صحيح هناك فارق شخصى هائل بين بيانات مبارك الشرير سيئ النية، وبيان شرف الطيب حسن النية، إلا أن هذا لن يغير فى المحصلة النهائية أشياء كثيرة، طالما تمسكنا بوصية مبارك وصندوقه الأسود. نعم، عنوان محاكمة قتله المتظاهرين عنوان محورى لأنه عنوان ضمير وعدالة، ولكن العنوان الأكبر هو إعادة هيكلة وتطهير وزارة داخلية وفق خطة زمنية معلنة وشفافة، وهو أمر كان يفترض أن تنجزه الحكومة من أول يوم تولت فيه المسؤولية، ولكنها كما كان يفعل مبارك انتظرت 5 أشهر حتى بدأت فى الاستجابة لبعض مطالب الناس. والمفزع، والمؤلم أيضا، أن رئيس الوزراء أعلن تكليفات على «الطريقة المباركية» الشهيرة حين طالب بعودة الأمن والأمان، وذكرنا بجملة مبارك الشهيرة قبل التنحى «أصدرت تعليماتى بعدم المساس بالمتظاهرين» وكلاهما يعلم جيدا أن المشكلة ليست فيما قال، لأن الأمن لن يعود للشارع المصرى والداخلية لاتزال تدار على قديمه، حتى لو كان على رأسها رجل محترم مثل منصور عيسوى، لأن قيادتها وعقيدتها تحتاج أولا إلى تغيير جذرى. صندوق مبارك فى الحكم مازال معنا، ولا أمل فى أى تغيير أو تقدم إلا إذا فكرنا خارجه. محبط أن يقوم شعب بثورة شارك فيها الملايين ويفشل حتى الآن فى تغيير ليس فقط الوجوه القديمة إنما أيضا طريقة التفكير القديمة، ولا أمل فى أى تقدم إلا إذا غيرنا الاثنين معا، وعرفنا أن هناك بلادا غيرت حكامها فى انتخابات ديمقراطية، وغيرت معها فريق العمل القديم كله، أما نحن فقمنا بثورة كبرى ومازلنا نحكم بنفس رجال النظام القديم. [email protected]