لا يفتح عينيه سوى لالتقاط نظرات دهشة خاطفة من حوله، يعود بعدها لخط الضوء الأبيض المتراقص الذى يفصله عن حدود المسرح والجمهور، خطوات محسوبة للدوران الذى يأخذ جسده بعيداً عن عالم صاخب تنكسر ضوضاؤه على دقات الصاجات التى يمتزج إيقاعها بتواشيح "سيدنا النبى" وسط الحركة الدائرية الموحدة للمتمايلين من حوله فى ملكوت لا ينتمى لعالم البشر، يختفى العالم تدريجياً سوى من إيقاع صاجاته التى ينتقل بها بين يديه فى خفة قائد الأوركسترا للفرقة التى بدأت منذ ما يزيد عن عشرين عاماً، تحول خلالها "عادل يوسف" إلى "قائد أوركسترا الروح"، بدقات متتالية ترتفع مع الابتهالات ثم تعود للانخفاض معيدة التوازن للمتمايلين الذين تتحكم دقاته فى صعود أرواحهم بلغة لا تعرف الكلمات. "أنا طالع من الزار" بصوت رخيم لا يستخدمه سوى للحديث خارج حدود المسرح بدأ "عادل يوسف": أقدم أعضاء الفرقة الأولى للتنورة فى مصر محاولاته لترجمة الإيقاع فى حديث ل"اليوم السابع" عن "أوركسترا الروح"، لا تتوقف عينيه عن الحركة السريعة، ولا تتوقف رعشة يديه طوال حديثه عن تاريخه مع "الصاجات" التى لا يفهم دورها الجمهور الذى يركز على راقص التنورة دون الالتفات لما حوله من عالم كامل من الإيقاعات الفاصلة بين حدود المسرح وعالم الدوران. بدايته تعود لخمسين عاماً مضت عندما دخل مع والده "الزار" للمرة الأولى، راقب حركاته وجهه وغياب عينيه عن العالم، تعلقت عينيه بالمتراقصين، حاول الانفصال معهم عن العالم حتى لمس الضوء الأبيض الذى يستقر أمام عينيه تدريجياً حتى ذاق طعم غياب الروح مع ذكر النبى، تاريخ حياته ملىء بذكريات "الموالد" وموسيقى التواشيح وإيقاعات الصاجات، التى تعلم حملها "أباً عن جد" بداية من الموالد وحتى مسرح "وكالة الغورى" الذى تحول فيها "عم عادل" كما يلقبه الجميع إلى أهم الفرقة. "اللى مالوش قديم مالوش جديد" هى عبارته الأشهر عند الحديث عن تاريخه مع الصاجات، "دنيا الموالد زمان كان طعمها جميل، النية كلها لله، والذكر بيحرك القلوب، وإيقاع الصاجات بيلمس الروح، زمان ماكنش فى "دى جى" فى المولد، كان إيقاع الذكر كفاية" يتذكر كيف اختلف المولد عن "زمان"، وكيف بدأت الفرقة بعشرة أفراد حتى وصل عددها لستين راقصًا. "بيقولوا عليا ظابط إيقاع" بخفة دم أشتهر بها عم "عادل" ضارب الصاجات يتحدث عن دوره بين أعضاء الفرقة، ويقول: كل واحد فى الفريق ليه دوره ماحدش يعرف يكمل من غير التانى، واللى بيربط كل دول هى الصاجات كلماته لا تحتاج لدليل لمن جلس أمامه لمتابعته فى لحظات التجلى على المسرح، يتنقل بين الراقصين بصاجاته التى تتحدث لغة لا يفهمها سوى من تدرب على يديه على الدوران، يتحدث بصاجاته مع عازف الطبلة وراقص التنورة أثناء دورانه، دقات صاجاته تحثه على زيادة السرعة، ثم يعود بها للصفوف الخلفية للفرقة ليعيد التوازن لموسيقى المدد. أما عن "المتصوفين" الذين نشأ بينهم عم "عادل" فيتذكر والده وجده بملابس المولد والشعر الطويل، يتذكر دوران رءوسهم مع إيقاع الصاجات، ويقول: زمان كان الفن الصوفى سنة ومناجاة مع الخالق عز وجل، تحولت لفن، وبقت فرقة بتمثل مصر فى كل أنحاء العالم، جمهورنا كله من السياح وفى عنيهم بشوف الدهشة فى كل عرض". وعن إنقراض فن التنورة فله رأى أخر، : ده فن الروح لا يمكن يختفى طول ما فى ناس عايشاه" لا يتوقف دوره عن ضبط إيقاع الفرقة، ولا تتوقف ألقابه عند أقدم ضارب صاجات أو "قائد أوركسترا الروح"، فهو المعلم الأول للراقصين الجدد، لا يكف عن نقل ما عاشه لمن يحلم بالتحليق بعيداً عن الأرض والدوران منفصلاً عن هموم الجسد، هدفه ليس الوقوف على المسرح فحسب، فما يحمله من فن هو رسالة يحاول نقلها لمن سيحمل بعده صاجات الإيقاع ، وسر قيادة الأوركسترا.