انتهى الدكتور الجنزورى من تشكيل حكومته فى نفس الوقت الذى جرت فيه انتخابات الإعادة، لتكتمل بذلك المرحلة الأولى فى أول تجربة مصرية فريدة من نوعها.. ليس فقط بالنسبة لشعب لم يسبق له خوض انتخابات حرة يقرر فيها المواطن المصرى بكامل إرادته من ينوب عنه. ولكنها كانت أيضا فريدة فى طريقة تشكيل الحكومة. لم يكن المجلس العسكرى وحده هو صاحب الكلمة فيها، ولكن الشعب المصرى كله من ميدان التحرير إلى العباسية فضلا عن مختلف الطوائف والأحزاب وصولا إلى حزب الكنبة.. كانت لكل منها كلمته ورأيه فى اختيار هذا الوزير واستبعاد ذاك، حتى ظن البعض رغم كل التأكيدات أن الصلاحيات التى وعد بها الجنزورى كانت مجرد تمنيات! وتكشف هذه التجربة الأولية قبل كل شىء عن أن الممارسة الديمقراطية تستند إلى قواعد وأصول وتنظيمات لابد من احترامها والعمل بها. فلا يمكن أن يختار رئيس الوزراء من الشارع لمجرد إرضاء الجماهير، ودون التثبت من قدراته وإمكانياته ومدى اتساع أفقه السياسى. ومهما قيل إن للثورة حقوقا ومطالب يجب مراعاتها فسوف يظل من الضرورى أن تحترم معايير القدرة والكفاءة السياسية حتى لا يتعطل جهاز الدولة ويقف دولاب العمل شهورا كما هو الحال الآن.. وتكاد المشكلة تتكرر مرة أخرى مع تشكيل حكومة جديدة للجنزورى.. فقد ساد منطق مغلوط يريد إقصاء أى مسئول مهما تكن كفاءته وأمانته كانت له علاقة أو خبرة وظيفية فى ظل النظام السابق. سواء كان متهما بالفساد ضالعا فيه أو لم يكن!
ومن الواضح أن الثورة فتحت شهية كثيرين إلى السلطة سواء كانوا أهلا لها أو لم يكونوا. وأصبحت مصر فى هذه اللحظة أشبه بسفينة ضائعة فى المحيط تتقاذفها الأمواج: شباب الثورة يريدون أن تكون لهم الكلمة الأولى، ولكنهم لا يتفقون على شىء ولا يريدون تحمل المسئولية.. رؤساء الأحزاب والقوى السياسية يتطلعون إلى المكاسب التى ستجنيها أحزابهم بالحصول على الأغلبية وركوب السلطة.. المرشحون المحتملون للرياسة يظن كل واحد منهم أنه الأولى بالرياسة ويرفضون تحمل مسئولية وليد لم يولد بعد. والمجلس العسكرى يريد ولا يستطيع بل تلاحقه الضغوط من الداخل والخارج لكى يعود إلى ثكناته. وأصبح الجنزورى أشبه بمن يطلب منه عبور البحر وقالوا له: إياك إياك أن تبتل بالماء!!
لا أحد يدرى هل سينجح النظام الجديد فى العبور دون التعرض للغرق.. ولكنه على الأقل وضع البلاد على بداية طريق جديد. وكشفت نتائج انتخابات المرحلة الأولى عن الأوزان النوعية للقوى السياسية المتنافسة.. فلم يثبت شباب الثورة قدرتهم على التنظيم والتخطيط والمناورة فى بحر واسع من ألاعيب السياسة وممارسات القوى التقليدية التى تمسك بزمام التيار الإسلامى، الذى يعتمد على مخزون استراتيجى هائل من السلفيين والإخوان المسلمين. ولا يبدو أن حملات التخويف والتهويل من وصول الإسلاميين إلى السلطة قد آتت ثمارها. بل على العكس، فربما أثارت إعجاب الناس بتنظيماتهم ونشاطهم الاجتماعى. وكلما زادت حملات التخويف وبالأخص فى الصحافة الأجنبية ودوائر الليبراليين والعلمانيين زاد الاقتناع بأن من حق التيار الإسلامى ما دام قد حصل على الأغلبية أن توضع شعاراته موضع الاختبار.. وسوف تثبت الأيام مدى كفاءته أو فشله فى مواجهة طوفان من المشاكل والتعقيدات التى تعيشها البلاد. وهذا ما توافقت عليه أمريكا ودول الغرب بضرورة الاعتراف بالإسلاميين والتعامل معهم. ومن الغريب أن الذين يرفضون التيار الإسلامى ويخوفون منهم، هم من المتحدثين بلسان الدول العربية والإسلامية التى واجهت «الربيع العربى» بكثير من الشكوك وتنبأت له بصدام قادم مع العسكريين وغيرهم من الأحزاب المدنية!
غير أن التحدى الحقيقى واجه الأحزاب الجديدة والليبراليين، والأحزاب القديمة مثل الوفد.. التى اعتمد بعضها على تاريخه وعراقته، واعتمد البعض الآخر على الوجوه الجديدة ومهارتها فى مخاطبة الأجيال الشابة والاستجابة لتطلعاتها، دون اهتمام بالقواعد الشعبية والطبقات الدنيا من المجتمع.
وبدلا من أن تعكف القوى الليبرالية على تنظيم صفوفها وإعداد كوادرها لمنافسات سياسية قادمة، فإنها مازالت عاجزة عن رؤية أخطائها والتركيز على تنظيم صفوفها..