ذهب مستشار تجاري إلى إحدي الدول الإفريقية لينال قسطا من الراحة بعد موسم عمل مرهق، وأثناء تجواله على رصيف ميناء التقي صيادا فقيرا في أسمال رثة وإلى جواره سلة ملأى بالأسماك الطازجة معروضة للبيع. سأل الرجل الصياد عن الزمن الذي استغرقه في صيد هذا الكم الوفير من الأسماك، فقال الصياد أنه لم يمكث داخل البحر سوى ساعتين. فقال الرجل: "لو أنك قضيت وقتا أطول، لكان صيدك أوفر". "قال الصياد: "لقد اصطدت ما يسد حاجتي وحاجة عيالي. "قال الرجل: "خبرني بالله كيف تقضي يومك. قال الصياد: "أصحو مع الفجر وأصطحب شبكتي إلى البحر وأعود من البحر إلى رصيف الميناء، فأبيع صيدي، ثم أعود إلى البيت، فأجلس مع زوجتي وأطفالي لنتجاذب أطراف الحديث، ثم أنام قيلولتي في ظل شجرة صفصاف بجوار منزلي وفي المساء ألتقي برفاقي فنتسامر حتى يشق النوم طريقه إلى أجفاننا". وجدها المستشار فرصة سانحة ليقدم نفسه للصياد ويرفع ياقته البيضاء عاليا، فقال: "أنا حاصل على ماجستير في إدارة الأعمال من جامعة هارفارد، ويمكنني أن أقدم لك العون هنا. عليك أولا أن تزيد من ساعات الصيد فتقضي على الأقل ثلاثة أضعاف الوقت الذي تقضيه حاليا، وتوفر الفائض من قيمة الأسماك لتشتري به مركبا كبيرا، وتشتري بما تستطيع ادخاره من عائد المركب مركبا ثانيا وثالثا حتى يكون لديك أسطول من المراكب. عندها لن تكون مضطرا للتعامل مع السماسرة، لأنك ستكون أهلا للتعامل مع شركات تعليب الأسماك، هذا إذا لم تقرر إقامة شركة خاصة بك وعندئذ يمكنك أن تترك تلك القرية الفقيرة لتقيم في المدينة أو في أي مدينة على الخارطة تتسع لمشاريعك العابرة للقارات". عندها سأله الصياد البسيط سؤالا بسيطا: "وكم يستغرق هذا الأمر يا ترى؟" قال المستشار: " من عشرة إلى عشرين عاما". سأله الصياد: "وماذا بعد؟" قال المستشار: "يمكنك عندها أن تبيع أسهم شركاتك الرابحة لتجني الملايين من الدولارات". قال الصياد دهشا: " يا إلهي! الملايين! وماذا بعد؟" قال المستشار: "يمكنك ساعتئذ أن تتقاعد وأن تشتري بيتا ريفيا بالقرب من النهر، وأن تستمتع بالقيلولة تحت شجرة صفصاف وأن تقضي أمسياتك في السمر مع الندماء، وأن ...". ثم توقفت الحروف على طرف لسانه فجأة وانسحب دون أن يلقى على الصياد كلمة وداع. كثيرا ما تشغلنا طموحاتنا وأحلامنا المستقبلية عن التمتع بما وهبنا الله من نعم، فيشق جرس المنبه في الصباح وداعة الحلم ويفلق أجفاننا عنوة لنهرول إلى ملابسنا وفطورنا وننسى أن نلقي تحية الصباح على وعودنا التي قطعناها أمام أستار الليل، ونبدأ سباقا محموما نحو تجربة حياة جديدة دون رغبة ودون تخطيط لتشغلنا السيارات المخالفة عن خروج الشمس من محاجرها وتشغلنا أصواتها عن أصوات العصافير المسبحة بحمد الرحمن وهي تنشر أجنحتها في فضاء متناه آمن واثقة برزق رغيد وحياة حرة. وتسرقنا ساعات العمل من أدمغتنا، لندور في فلك متناهي الصغر كثيران السواقي التي لا ترى أبعد من أظلافها في رحلة لا تنتهي إلا بسقوط الحافر في وهدة الموت. وتشغلنا الحياة بصخبها وأضوائها وأحلامها وآمالها وآلامها ومناصبها وأموالها وتجارتها عن التفكير في إجابة سؤال منطقي طرحه صياد فقير على شفير نهر في بلد بعيد عن رالي الأطماع الحقيرة في دنيا لا تكف عن الصخب ولا نكف عن لعنها والتمسك بأهدابها: "وماذا بعد؟". ولأن أبصارنا الصغيرة ذات المحاجر الضيقة تعجز عن رؤية ما وراء المادة الغارقة في الترهل والتشبع بأطماعنا الصغيرة، ترانا لا نكف عن التمرد على الوهاب الذي تكفل بما نشغل به أنفسنا ليل نهار من رزق لا نستطيع الفرار منه لأنه يطلبنا كما نطلبه، فتصطادنا حياة خرجنا لصيدها. هكذا تشغلنا الحاجات الصغيرة وتعشي أبصارنا زيوت الأطماع فلا نرى أبعد من أرانب أنوفنا التي ألهتها رائحة الشواء عن تلمس طريق الخلاص من غابة كثيرة السباع والضواري، والهروب من براثن النعم إلى راحتي المنعم وطلب جنة ليست على بعد عشر أو عشرين سنة مع الشغل والنفاذ بل على مرمى قدم من توبة نصوح أو عمل طيب نقصد به وجه الله تعالى.