اتفق صديقان على الذهاب للصيد ذات عطلة، فأنفقا على معدات الصيد وما يلزمها من قارب صيد وكوخ قرب البحيرة ونفقات نقل وتخييم مبلغا كبيرا. ومر يوم الصيد الأول دون أن يهتز لهما خيط، ومر الثاني دون أن تداعب طُعمهما سمكة، لكن أحدهما تمكن في اليوم الثالث من اقتناص سمكة صغيرة ضلت عن الركب. وفي طريق عودتهما، تلاوم الصديقان، فقال أحدهما: "هل تصدق أن سمكة حقيرة كهذه كلفتنا خمسمائة دولار؟" فقال الآخر مازحا: "حمدا لله أننا لم نصطد غيرها، وإلا لدفعنا أضعاف ذلك من قوت عيالنا". هل آن أن نعترف أننا أنفقنا على الميادين أكثر مما ينبغي من تجاويف الحناجر ونبضات القلوب ورعشات الجلود والآمال المعلقة فوق شماعات الخوف في سراديب أرواحنا التي لم تطأها أقدام أمل بالحرية طول اغتراب ؟. هل آن أن ندرك أن حصاد الهشيم الذي عدنا به من بلاط الأرصفة لا يساوي خردلة واحدة من دماء كانت حتى خريف تخوين طاهرة ؟. وهل آن أن نطأطئ رؤوسنا أمام أطفالنا ونحن نعود إليهم بعد عام من الوعود بسمكة لا تسمن ولا تغني من خسارة ؟. لا أعرف كيف انحسر طوفان الثورة كثعبان يمزق جلده ذات تراجع ليترك على تراب الذكريات بقايا حزن، وعلى أشواك الواقع آثار رغبة انعتاق لم تدم طويلا. ها نحن، بعد أيام معدودات من عهد الحرية نهز أذنابنا كتمساح مستنقع نسي شجاعته بعد ضربة مباغتة من غريم لنضع رؤوسنا التي لطالما نادينا برفعها ذات نشوة في وحل الهزيمة ونرقد في شرنقة السكون التي نسجنا خيوطها حول خياشيمنا عهدا من الذل ليس عنا ببعيد. ها نحن نبلع ألسنتنا التي انطلقت كمارد المصباح ذات صباح ونلعق شفاهنا لنمحو ما تبقى عليها من آثار عهود بالسير على درب الحرية حتى بلوغ شفق العمر. وها نحن ندرك بعد جلسات علاج روحاني طويلة مع شياطين الفضائيات أن بروميثيوس الذي حمل شعلة التمرد ذات نبض لم يكن سوى لص محترف ؟. وأنه يستحق أن تنزل به كل اللعنات لأنه أراد أن يتجاوز سماوات الخوف من المجهول وأن يتمرد على تراث الحزن الذي ملأ مخازن البيوت والحوانيت ووصايا الآباء والأمهات. أدركنا مؤخرا جدا أن حكمة النملة التي عصمتها من أحذية جند سليمان ذات تاريخ تعلو على حكمة الفراشات التي لا تعرف للظلام قدسية ولا ترعى للنور حرمة. عدنا إلى بيوتنا بعد أن أكلت الشمس سيوفنا المصنوعة من الشمع وأذابت معاصمنا المصنوعة من الشيكولا لنتبادل الاتهامات كما كنا نفعل ذات قهر، ونتغزل أمام المرايا المسحورة بقدرتنا على التأقلم مع كل المستجدات. وعدنا إلى شاشات التلفاز وشاشات الهواتف وشاشات الحواسيب وكأننا كفرنا بردة الميادين وزندقة الجمعات. ها نحن نعود برصيد من الخوف يكفينا شر الخروج إلى شوارع الحرية بضعة عقود، ويكفينا شرور أنفسنا الأمارة بالحلم عند كل خلوة بخيال جامح. ماذا نفعل اليوم بأدوات صيد لم تأت لنا بخردلة حرية ؟. وماذا نفعل بتاريخ يتكاثر خضريا دون حاجة إلى مزيد من الهراوات أو الأسلحة البيضاء ليستنسخ نفس الحكايات القديمة عن مارد الليل الذي يهبط على أجنحة الحلم فينتف ريشها ويطحن عظامها كلما أبدت المواسم خائنة عين نحو أي ربيع ؟. هل تتآمر فصول السنة الثلاث على زقزقات الربيع وتطرده شر طردة من دواليب السنين ؟. هل نحن مقبلون على خريف يكنس كل ما زرع الربيع في صدور الأشجار من أوراق أمل وثمرات وعي ؟. وهل يدرك أبناء الساموراي أن سيوفهم المتآكلة من كل الزوايا لم تعد تحميهم من امتداد موج الظلم بعد طول انحسار، وأنهم عادوا ليجلسون حول موائد النميمة ويشربون قهوة البن الأمريكي بنفس النكهة ونفس المذاق ؟. يحكى أن ثلاثة نفر التقوا بحورية عند أهداب نهر ذات مساء، فسألها الأول أن تضاعف ذكاءه مرتين ففعلت، وصار الرجل أشعر من شكسبير، وطلب منها الثاني أن تضاعف ذكاءه ثلاث مرات، ففعلت وتمكن الرجل من التعامل مع عشرات العمليات الحسابية في الثانية تلواحدة. لكن الثالث حين طلب منها أن تضاعف ذكاءه أربع مرات، تمهلت قليلا لتستوثق أنه يريد ذلك فعلا، وحين تأكدت من رغبته حولته إلى امرأة.