تحت بند الاعتراض على موقف شخص، أو كتاباته، أو حتى ملبسه، يرفع آخرون قضايا وبلاغات، يصل أسبابها إلى الكفر ذاته فى نظر هؤلاء، حتى ولو كانوا في حياتهم الشخصية غير مؤهلين علميا أو أدبيا أو حتى أخلاقيا لرفع مثل هذه القضايا، استغلال قانون الحسبة جعل على الأرض آلهة كثيرين، يحكمون على تصرفات الغير بما ترضاه أنفسهم، ليس فيما ترضاه المصلحة العامة. مقولة "كلنا شرفاء حتى تأتى العاهرة" قد تثبت -ولو جزء بسيط- حقيقة ما نمر به الآن من بعض الاضطرابات فى سلوكنا المعيشى والمجتمعى، من ازدواجية معايير وعدم اتساق بين تصرفاتنا الشخصية والصورة المثالية التى نطمح إليها، أو التى نرى أنفسنا فيها، وبالتالى أى شخص يحاول أن يهز تلك الصورة المثالية، كفيل بأن يلقى بالاتهامات من كل حدب وصوب، ولا غرابة فى أن نرى أن أول من انتفض دفاعاً عن الشرف كان يبيت ليلته فى احضان بعض العاهرات، أمور وجدناها مسلمات، ونواجها الآن فى الشارع المصري تحت مصطلح يسمى "الحسبة"، مؤخرا كانت له الأغلبية الكاسحة فى الإنتشار والتوسع، حتى وصل الأمر إلى أن بعض الأشخاص ممن لا وزن لهم وهو جالس على القهوة قد يحكم على تصرفات عالم يبيت ليلته فى معمله من أجل إفادة البشرية، أو أن يحكم أخر لم يدخل المسجد قط على باحثإسلامي مثلا، المهم أن نتتبع خطوات الغير بصرف النظر عن خطواتنا، وفى المقابل لا نرضى بأن يتتبعنا أحد، تلك موجة قد غمرتنا، حتى اعتبرنا أنفسنا فوق البشر، سواء كان بقصد أو بدون قصد فقد صار الأمر بيننا تأليه. مؤخراً انتشرت بعض الصور والفيديوهات للفنانة "رانيا يوسف" فى ختام مهرجان القاهرة السينمائى فى دورته الأربعين، وهى ترتدى فستانا أثار غيرة وحمية الكثير من المصريين، وانهالت عليها الاتهامات والبلاغات من كل مكان تتهمها بالتحريض على الفسق والفجور، أكثر من 32 بلاغا تقدم به محامون كان الهدف من وراء ذلك حفاظاً على الصورة التقليدية للمجتمع المحافظ بطبعه، مع أن بعض المحامين من ضمن مقدمي البلاغات هو المحامى الخاص لسما المصري ومحام آخر لنجلاء صاحبة فيديو كليب الحصان الشهير، وهم - كما نعرف- اثارو غيرة المصريين أكثر من فستان "رانيا" نفسه - المقزز، ووقتها كانوا هم المدافعون عن موكليهم ضاربين بكل القيم التى ينادون بها الأن عرض الحائط، نحن هنا لسنا فى موقف دفاع عن الفنانة رانيا يوسف، ولا ننفي خطئها، لكننا ضد قانون يجعل من الأشخاص آلهة يحاسبون غيرهم، والكل أمام سواء. وهل ينسى التاريخ ما تعرض له المفكر العلمانى الراحل الدكتور"نصر حامد أبو زيد" والذى أثارت كتاباته ضجة إعلامية فى منتصف تسعينيات القرن الماضى،واتهم بسبب أبحاثه العلمية بالردة والإلحاد، وتكونت لجنة لمنحه درجة الأستاذية من أساتذة جامعة القاهرة بينهم الدكتور عبد الصبور شاهين، الذى اتهمه في تقريره بالكفر. تلك الأزمة التى استغلها البعض من خلال قانون الحسبة والتى يطبق فيها فقه الإمام أبو حنيفة، أقيمت دعوى لمقاضاته وطالبوا على أساسها المحكمة بالتفريق بين نصر حامد وزوجته باعتباره مرتدا عن الدين الإسلامي، وأنه لا يجوز للمرأة المسلمة الزواج من غير المسلم، واستجابت المحكمة وحكمت بالتفريق قسرا بين أبو زيد وزوجته الدكتورة ابتهال يونس، أستاذ الأدب الإنجليزى، وفى نهاية المطاف وبعد تحذيرات المقربين إليه من مغبة المكوث فى مصر خاصة بعد حادث اغتيال فرج فودة، سافر مع زوجته إلى هولندا كمنفى اختياري له، وعمل أستاذا للدراسات الإسلامية بجامعة لايدن. والأمثلة كثيرة لعل آخرها الباحث الإسلامي إسلام بحيري عندما اصطدم مع أصحاب الفهم النصي للقرآن دون البحث في باطنه. حق النيابة السؤال هنا: ما مدى قانونية هذا القانون الذي يجعل من جاهل أحيانا أن يقيم دعوى ضد عالم أو باحث ليسجنه؟!وكان من الطبيعي في البداية أن يدلي رجال القانون بدلوهم. أكد المستشار جمال القيسونى الرئيس السابق لمحكمة استئناف أسيوط أنه لا يوجد في القانون المصري دعاوى حسبة ترفع من قبل أشخاص، وأن دعاوى الحسبة تحركها النيابة العامة إذا رأت أن هناك ضرر يقع على المجتمع. وعلى هذا الأساس يجب أن نفرق بين الدعاوى الجنائية وهى التى تتولاها النيابة العامة أمام الجنايات والجنح الهامة وهي صاحبة الحق في احالتها للقضاء، والدعاوى البسيطة مثل التبديد او الشيك بدون رصيد التي يحق لأصحابها رفعها مباشرة أمام المحكمة. ويستطرد المستشار جمال القيسونى حديثه قائلا: بمعنى أنه لا يجوز لأى شخص رفع دعوى ضد آخر إذا لم يصبه منه ضرر شخصى، أما ما يفعله بعض المحامين من تقديم بلاغات ضد شخصيات او فنانين ومسئولين لمجرد تصرفات وتصريحات يرون أنها تسيء للمجتمع، فهذا حقهم ومن حق النيابة ايضا حفظ البلاغات وعدم إحالتها للمحكمة، وهناك كثير من تلك البلاغات تم حفظه لعدم جديته. فيما أكد المستشار فريد نصر رئيس محكمة الجنايات السابق، أن دعاوى الحسبة البعض يفهمها بشكل خاطيء، لأن القانون كفلها فقط للنيابة العامة وهى الوحيدة صاحبة الحق فيها ولايجوز لأي شخص أن يقيمها، لأنه لا يوجد رقيب على الأمة والمجتمع المصرى سوى النيابة العامة فقط، وللأسف هناك البعض لا يفعل شيء سوى أن يستيقظ صباحا لتقديم بلاغات في آخرين دون أن يعرفهم من الأساس. فيما قال المحامى عمرو عبد السلام رئيس المنظمة العربية لحقوق الإنسان والمحامي بالنقض، والذي قدم بلاغا ضد الفنانة رانيا يوسف ثمتنازل عنه، وبعض المحامين، من أعطاني الحق هو القانون حيث أوجب على كل مواطن مصرى شاهد جريمة أن يبادر بابلاغ السلطات المختصة بتلك الجريمة لاتخاذ الإجراءات القانونية ضد مرتكبها، وسبق وقلنا إن ما فعلته رانيا يوسف يمثل جريمة يعاقب عليها القانون،ثم اننا قمنا برفع الدعوى من منطلق حرصنا على النظام العام والآداب، وخشية أن يقلدها فتيات في سن المراهقة، وسحبت الدعوى عندما قدمت اعتذارًا للمجتمع وتأكيدها على أن ما حدث لم يكن متعمدا، وكان لظروف خارجة عن إرادتها، بهذا الاعتذار تحقق الغرض من شكوانا القانونية ضدها، وهو توضيح للفتيات صغار السن أن هذا الفعل مشين وليس طبيعيًا.