ظلت مصر منذ فجر التاريخ شامخة وابية، صنعت الحضارة قبل ان تعرف الدنيا الحضارة، وبشعبها وجيشها ملئت العالم نوراً وسلاماً وعلماً، لم تنكسر مصر الا بإنكسار جيشها الابي الذى هزم التتار وتصدى للمغول واذل الصهاينة، وفى تلك الفترات الاستثنائية التى تهاوى فيها الدرع وانكسر السيف، استباح العدو الوطن وارتكب الاجانب افظع واقذر الجرائم ضد المصريين، والان جاء وقت الحساب حلقات تاريخية استثنائية بالتعاون مع الدكتور عاصم الدسوقى استاذ الاساتذة فى التاريخ المعاصر عقارب الزمن تتوقف 300 عام عن أرض الكنانة أجداد سلطان البغايا يعزلون مصر عن العالم العثمانيون يغلقون الموانىء البحرية والحدود البرية ليعيش المصريون فى ظلام بعد مشاهدة مدافع المحتل الجديد رفع الشعب شعار: "نجنا من المهالك" نواصل كشف جرائم المحتل العثمانى الذى ظل قابع على قلب المصريين قرابة الثلثمائة عام، فبعد ان كشفنا على مدار الحلقتين الماضيتين عن اليوم الاسود الذى عاشته مصر فور دخول العثمانين البلاد، وقتلهم اكثر من عشرة الاف فى ليلة واحدة، وفصل الاجساد عن الرؤوس فى تميز عنصرى حتى فى الموت، ومن ثم انتهاك السكارى العثمانين المساجد والاطرحة وتحويلها الى ساحات اعدامات، يكشف الدكتور عاصم الدسوقى، استاذ الاساتذة فى التاريخ المعاصر عن اقذر وابشع جريمة ارتكبها العثمانين خلال فترة إحتلالهم البلاد. ليس بحد السكين، او طلقات الرصاص، او دانات المدافع، او قصف الطيران ترتكب الجرائم، فهناك جرائم اقذر واقسى وابشع من الممكن ان ترتكب دون سلاح، جرائم تمتد الى اقصى حدود السادية الفكرية، وتندرج تحت ابشع درجات القهر النفسى، وتعتلى قائمة جرائم العدوان على الإنسانية. هكذا يعرف الدكتور عاصم الدسوقى الجريمة، مشيراً الى الجريمة بمفهومها الضيف هو القتل وسفك الدماء، لكن بتعريفها العام تمتد الى العدوان على القيم الإنسانية، او محاولة تغير الثقافة، او العبث بعادات وتقاليد الشعوب، او الاعتداء على هوية الاوطان، ومحاولة محو التاريخ او تحريفه او تغيره. خوف ممتد بعد ان قضى العثمانين على حكم المماليك بإعدام "طومبناى"، وقتل الاف من المصريين فى الساحات والشوارع وداخل المساجد، ونهب ممتلكات التجار والبسطاء على حد سواء، وايضاً تهجير الاف من اصحاب الحرف الى تركيا، تهاوت القوى الوطنية، حتى اصبحت مشلولة امام العثمانين السكارى، الذين انعزلوا عن المساجد، مكتفين بالسكر والعربدة فى ساحات وشوارع وحارات وازقة البلاد. وحسبما يقول الدكتور عاصم الدسوقى، بدى على العثمانين الخوف من المصريين، حتى بعد ان تأكلت قواهم، وهلكت تحركاتهم لصد العدوان العثمانى الغشيم، فقرروا ان يعزلوا مصر عن العالم، وكانت هذه هى الطامة الكبرى، حيث عاشت مصر قرابة الثلثمائة عاماً فى عزلة، لا تعرف عن محيطها الاقليمى او الدولى اى شييء. ويوضح الدكتور عاصم الدسوقى قائلاً، خشى الاتراك ان يقوم المماليك بدعم المصريين عن طريق البحر، فعزلوا مصر بحرياً عن العالم عبر بحرها المتوسط والاحمر ونهر النيل، كما عزلوا من كافة حدودها البرية. ويصف الدكتور عاصم الدسوقى ما حدث بالمصيبة قائلاً، المصريون بطبيعتهم لديهم حب الشغف لما يدور حولهم، ليس داخل البلاد فحسب، وانما فى الخارج ايضاً، الا تشاهد المصريون فى الاقصر واسوان وهم يتحدثون اكثر من لغة، هل رأيت الاطفال والشباب المصريين الذين يطلعون على ادق التفاصيل الخاصة بمحيطنا الاقليمى والدولى ايضاً من خلال مطالعة الصحف وقراءة الكتب، ومتابعة المواقع الاخبارية. ويضيف الدكتور عاصم الدسوقى، العثمانيون قطعوا كل ادوات إطلاع المصريين عن الخارج، فيما يعرف بالعزلة، بمعنى انه كان ممنوع تماماً على اى مصرى الخروج من البلاد او الإقامة فى بلد اخر، كما كان ممنوع إستقبال اى اجنبى سواء كان عربى او غربى فى البلاد، والنتيجة ان المصريون عادوا الى ما قبل العصور الوسطى، او بالادق توقفت عقارب الزمن عند سنة 1517 وهى السنة الاولى للحكم العثمانى، وحتى بترهم من الاراضى المصريه بعد حوالى ثلثمائة عام. طرق العزل وعن طريقة عزل المصريون عن العالم، يقول الدكتور عاصم الدسوقى، كان غير مسموح للسفن العربية والغربية الدخول الى البلاد، حيث قرر العثمانون ايقاف تفريغ حمولات السفن فى عدن اليمنية، على ان يقوموا بتوصيلها الى مصر عبر سفن داخلية، وبمجرد وصولها الى مصر، يتم نقل البضائع عبر الطرق البرية الى الاسكندرية، ومنها يقوم العثمانين بتسليم البضائع الى السفن التجارية العملاقة لتكمل خط سيرها كما يخطط لها. ايضاً تم إغلاق الحدود البرية تماماً، فلم يستطيع اى مصرى السفر الى خارج البلاد، او تستقبل اى اجنبى يريد الدخول الى البلاد. ويضيف الدكتور عاصم الدسوقى، كان الحكم العثمانى خلال هذه الفترة سطحى جداً، لم يتدخل فى شئون البلاد والعباد، وكان المصريون من داخلهم معزولين، كل منهم يعيش فى حارة تسمى بإسم اهلها، مثل حارات المسلمين وحارات النصارى وحارات اليهود، وبعضها مازال على نفس اسمها فى مناطث العتبة وباب اللوق، وهذا مع تغير الثقافات. ويكمل الدكتور عاصم الدسوقى، تخيل ان تعيش دولة كاملة محبوسة لمدة ثلثمائة عاماً، افكارها وثقافتها متجمدة خلال هذه الفترة، بإختصار فور زوال الغمة سيكون المصريون على موعد عدد من الصدمات، اياً كان نوعها سواء كانت صدمة ثقافية او اقتصادية او اجتماعية، والاخطر ان تكون عسكرية، وهو ما حدث مع نهاية الحكم العثمانى. سقوط الحكم يقول الدكتور عاصم الدسوقى عن الصدمة العسكرية، فى 1798 علم طليعة من المصريين ان هناك غزو قادم من الغرب الى مصر، حينها ابلغ السلطان ابراهيم بك، وكان رده بمنتهى الاستهانه هو، "عملنا ان الفرنجة على ابواب الاسكندرية" وإننا سوف نطأهم تحت سبائك الخيل"، بالتأكيد كان القليل جداً من يعلمون من هم الفرنجة التى يقصدهم السلطان، او حتى هم قادمين من اى دولة، لم يكن المصريون يعلمون اللغات ولا يتحدثون غير العربية، وكانت ثقافة المصريون كما اكدنا توقفت عند عام 1517، وهو عام قدوم العثمانين، وهو ما يعنى ان مفهوم الحرب بالنسبة للمصرين هو الخيل والدرع والسيف. الصدمة الثانية كما يصفها الدكتور عاصم الدسوقى، كانت عندما دخل الفرنسيون البلاد ولديهم معدات عسكرية لم يشاهدها المصريون على الاطلاق ولم يسمعون عنها، وعندما اطلقت الفرنسيون دانات المدافع، وصف الجابرتى حالة المصريين قائلاً، "يا خفي الألطاف نجنا مما نخاف"، ومن حينها اصبحت هذه الجملة بمثابة المثل الدارج عندما تتعاظم الكرب والمحن على الانسان. وخلال معارك وثورات عنيفة وطاحنة عانى فيها المصريون اشد المعاناة، تمكن الفرنسيون من البلاد، بعد ان إنتشر جنودهم كالجراد الذى يأكل الارض ويفتك بالعباد. برواز فى الحلقة القادمة: نبدأ فى سرد مرحلة جديدة من معاناة المصريون مع الاحتلال الفرنسى، وفيضان الثورات الذى اندلع فى اغلب المحافظات كلاً على حدة وذات طبيعة خاصة، وتفاصيل المرسوم الفرنسى الذى انتهى بجملة: "كل قرية تقوم على العسكر الفرنساوي تحرق بالنار"، ومعركة "شبراخيت" وتفاصيل إحتراق المراكب بما عليها من مقاتيلن تطايرت اجسادهم فى الهواء من قسوة النار.