لا قناة »الجزيرة» ولا ألف مثلها، ولا مليون برنامج وثائقي مسموم كالذي أذاعته »الجزيرة» مؤخرا، ولا الإعلام المعادي لمصر في الدنيا كلها، يمكن أن يهز شعرة في بدن الجيش المصري. البرنامج الوثائقي المسموم حمل عنوان »العساكر : حكايات التجنيد الإجباري في مصر»، والمضمون كالعنوان يصور التجنيد العسكري في مصر كأنه من أعمال السخرة، والتضحية بالمجندين وحدهم في الحروب، ويفبرك مشاهد قسوة وإهانة علي طريقة الاصطناع والمحاكاة، ويورد لقطات مسربة، جري التلاعب في زوايا تصويرها، وعلي نحو يوحي بالهزال والتهافت البدني للعساكر، وكلها عناصر لعبة تزوير مفضوحة، تجتزئ الصور، وتعيد ترتيب رواية ملوثة، لايخفي الهدف النهائي فيها، فهي عمل مخابراتي محض من وراء قناع مهني محترف، يقصد إلي التلاعب بالعقول والضمائر، وتنفير الشباب المصري من فكرة الذهاب للجيش، ورفض مبدأ التجنيد الوطني العام كأساس فريد لتكوين الجيش المصري. وليست الحكاية في عداء مزمن من القيادة القطرية للحكم المصري الحالي، ولا في فجور الإخوان، ولا في جنون إردوغان المهووس برغبة الانتقام من الرئيس السيسي، وإيذاء الجيش المصري الذي حطم أحلام إردوغان »العثمانية» الضائعة، فكل هؤلاء من اللاعبين الصغار، ودور قطر ليس سوي التمويل و»دفع حساب المشاريب»، وعلي أمل الفوز بدور خياني للشعب القطري قبل الشعب المصري، فحكم قطر ليس سوي طفل عائم في »البامبرز»، وقصر الأمير و»قناة الجزيرة» في حماية ثلاث قواعد عسكرية تركية وأمريكية، وبرامجها إخوانية الهوي، تصاغ وتذاع بريموت كنترول المخابرات المركزية الأمريكية، وهدف البرنامج الوثائقي المسموم هو ذاته هدف الإدارة الأمريكية علي عهود تعاقبت، وقد صرح به الخبير الأمريكي المستضاف في برنامج »الجزيرة» نفسه، فقد استثمرت الإدارة الأمريكية زمن المعونة الذي أعقب عقد مايسمي معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، وكانت أمريكا المورد شبه الوحيد للسلاح إلي الجيش المصري، وحرصت علي إضعاف الجيش، وضمان التفوق النوعي الحاسم لجيش كيان الاغتصاب الإسرائيلي، وضغطت من أجل هدف جوهري، وعلي نحو ما كشفت عنه وثائق »ويكيلكس» الخاصة بلقاءات الأمريكيين السرية مع قادة عسكريين مصريين، وفيها أبدي الأمريكيون عظيم الضيق بالحجم المهول للجيش المصري، وما قد يشكله من إشارة خطر في المستقبل علي الكيان الإسرائيلي، ونصحوا بإلغاء التجنيد الوطني العام، والاقتصار علي جيش صغير من المتطوعين والضباط، تنحصر مهامه في مواجهة مخاطر الإرهاب والجريمة المنظمة، وبرغم كثافة الضغوط الأمريكية، فقد رفض القادة العسكريون المصريون مطلب واشنطن، وكان المشير محمد حسين طنطاوي هو حجر العثرة الأساسي في وجه الأمريكيين، ولذلك وصفوه في وثائق »ويكيلكس» بأنه »عسكري مصري تقليدي»، في حين أشادوا بجنرال آخر ذهب مع الريح بعد الثورة الشعبية المصرية، وكان قد أبدي تجاوبا مع رغبة الأمريكيين المسمومة، والتي تذرعت بمقولة السادات عن حرب أكتوبر، ووصفها بأنها آخر الحروب، ومن ثم وجوب حل الجيش المصري بتركيبه الراهن، وإلغاء التجنيد الوطني العام، وإحلال جيش صغير يسهل التلاعب أمريكيا بجنرالاته، والتعامل معه كميدالية مفاتيح صغيرة عند أطراف أصابع الأمريكيين، وقد ظهرت الفكرة نفسها عند »الخواجة» محمد البرادعي، وردد المطلب نفسه في حوار منشور بجريدة »الأهرام» عقب ثورة 25 يناير 2011. إنها الحرب المكشوفة إذن، والتي لا تبدو فيها »قطر» سوي »عقلة إصبع»، وقناة »الجزيرة» مع الإخوان وتركيا سوي »عرائس ماريونيت»، يمسك بأطراف خيوطها صانع اللعبة القابع بعيدا في واشنطن، فهو المخطط الأول، بينما المستفيد الأول يقبع قريبا منا وعلي حدود الخطر المباشر، فإلغاء التجنيد الوطني العام ليس تغييرا في الوسائل، إنه تغيير في هوية الجيش نفسه، فالتجنيد العام هو الذي يجعل الجيش أعظم مصانع الهوية الوطنية، وفرن الصهر الهائل للسبيكة المصرية، وضمان ثبات الجيش علي عقيدته الوطنية الجامعة، والمدركة لطبيعة الخطر علي الوجود المصري الآتي من الشرق أولا، فوجود إسرائيل في ذاته خطر علي الوجود المصري في ذاته، وقد ظلت تلك هي العقيدة الراسخة للجيش المصري، برغم تغير اختيارات وتصرفات السياسة الحاكمة، وما من ضمان سوي أن يعبر الجيش بدقة عن المزاج الشعبي العام، وهو ما يحققه التجنيد الوطني، والذي يجعل الجيش جزءا لا يتجزأ من الشعب المصري، وليس جيشا لحاكم ولا لطبقة ولا لفئة، وهو ما يفسر انحياز الجيش دائما لحركة وثورات الشعب المصري، وعلي نحو ما جري في مساندة الجيش التلقائية لثورة الشعب المصري في 25 يناير 2011 وموجتها الثانية في 30 يونيو 2013، وهو ما لن يحدث عكسه في قابل الأيام. ولا يخفي السياق الذي يتم فيه الهجوم البائس علي الجيش المصري، ومبدأ التجنيد الوطني، فقد تحطمت دول عربية كثيرة من حولنا، وكان تحطيم الجيش هو أقصر طريق لتحطيم الدولة، ولم تكن مصادفة أن أول قرارات الاحتلال الأمريكي للعراق كان حل الجيش وإلغاء مبدأ التجنيد الوطني العام، ومن وقتها انتهت سيرة الوطنية العراقية الجامعة، وحل زمن الميليشيات و»الداعشيات» والطائفيات المهلكة، وهو ما يراد له أن يحدث في مصر العصية علي التفكيك، والتي يواصل جيشها الأعظم حرب التحرير في سيناء، ومن حيث توقفت أصوات المدافع في حرب أكتوبر 1973، فما يجري في سيناء، ليس حربا معزولة أو منفصلة ضد جماعات الإرهاب، بل هي حرب استكمال التحرير الفعلي لسيناء، وإلغاء مناطق نزع السلاح التي كانت مفروضة بمقتضي ما يسمي معاهدة السلام، والتي حرمت جيشنا طويلا من حق الانتشار الطبيعي، وقد عاد جيشنا الآن إلي كامل أرضنا المقدسة، وهو ما يحدث لأول مرة منذ ما قبل هزيمة 1967، ويفسر سبب عواء الكلاب وهياجها الملتاث ضد الجيش المصري. وقد نختلف في السياسة والاقتصاد مع الحكم الراهن، لكننا نختلف في مصر، وليس علي مصر، ولا علي الجيش المصري.