التقي بها مصادفة، وهو يبحث عن الحب، ففتح لها قلبه على مصراعيه، وآواها فى أحضانه، راجيًا أن تعوضه عما لقي في حياته من حرمان، وعما عاناه أثناء كفاحه - في سبيل مستقبله- من إرهاق. وكانت أول امرأة فى حياته،ولكنه لم يكن أول رجل فى حياتها، إذ تزوجت قبله رجلاً أنجبت منه ولدًا، ثم طلقها، والولد عمره ستة أشهر، ومع ذلك فقد أصر صاحبنا على أن يتزوجها، وقبلت هى بعد إلحاح منه. ولم يكد ينقضى شهر العسل، حتى بدأت الغيوم تخيم على حياتهما، وما هى إلا ثلاثة أشهر حتى تطورت الأمور، وأصبحت تنذر بانهيار الزواج. ولكنهما كانا راغبين فى أن يصوناه من الانهيار، ومن ثم فقد حملا مشكلتهما إلى الأستاذ (م. غ). لا أطيق الرجال عندما يتصرفون كالصبية! قالت الزوجة تعرض الأمر من ناحيتها: أثبت زوجى الأول أنه غير كفء لتحمل المسئولية، وأنه منصاع لآراء أمه انصياعًا يسلبه التفكير فيما ينبغى عليه نحو زوجته وحياتهما المشتركة، وحاولت أن أعالج الأمر، إلى أن أنجبت طفلي، ففكرت فى أن أشغل به عن همومي، ولكن الطفل لم يكد يبلغ الشهر السادس من عمره، حتى أيقنت فشل كل حيلة لإصلاح زوجى، وتم الطلاق. وعدت إلى العمل الذى كنت أمارسه قبل زواجي، فاستطعت أن أوفر لابنى حياة طيبة، ولكنه أخذ يفطن - كلما تقدم به السن- إلى الفراغ الذى فى حياتنا، الفراغ الذى خلفه غياب الرجل: الزوج والأب. وكان قد بلغ ست سنوات حين التقيت بزوجى الثانى، فكان المحفز الأول لأن أقبل الزواج منه، هى رغبتى فى أن أتيح لطفلى أباً، ولكن هذا الزواج لم يكن أسعد من سابقه، وإن لم تنقض بعد أربعة عشر شهرًا عليه! لقد ألتقيت بزوجى الحالى (جمال) مصادفة منذ عامين، وتعددت لقاءاتنا فتوثقت صداقتنا، وشغف (جمال) بطفلي الحبيب (كامل) مما أوحى لي بأنهما خليقان بأن يسعدا معًا. ومع ذلك فقد ظللت عشرة اشهر أتهرب من محاولات (جمال) لإغرائى بالزواج منه. ولم أستطع أن أصده على الدوام، وأنا أشهد حبه لى، وتعلقه بابنى، فتزوجنا، وكان شهر العسل أشبه براحة يانعة فى صحراء شقائى. وعشنا فى انسجام تام، وإن لاحظت أن عواطف (جمال) كانت أشد إرهافًا، وأن أعصابه كانت أشد حساسية مما ينبغي، لاسيما بالنسبة للضوضاء. ولم يكد يضمنا مسكن واحد - بعد عودتنا من رحلة قصيرة قمنا بها، عقب الزواج - حتى بدأ يضيق بالضوضاء التى يحدثها (كامل) ككل طفل فى سنه، وزاد من تذمره أننا استعنا بخادم عجوز لم تكن تجيد الطهي، وكان بوسعى أن اعالج الأمر بأن أتفرغ للحياة الزوجية، ولكن التجربة السابقة جعلتنى أتريث، فضلا عن أننى لم أر من الإنصاف أن أثقله بنفقات ابنى، كما إنه وافقني على البقاء فى العمل. ومع ذلك، فإنه لم يكن يغفر لى عدم معاونته فى خلع ثيابه وتعليقها على المشجب إذا ما عدنا من العمل، بالرغم من أننى لم أكن أقل منه تعبًا، وكان يصر على أن يلقننى درسًا فى الحياة الزوجية والعناية بالزوج والبيت، وهو يعرف ظروفى. وفوق هذا وذاك، بدأ يعنف فى انتقاد تصرفات (كامل) وفى توجيهاته له وأوامره، بالرغم من أن الولد كان فى حالة غير طبيعية، منذ بدأنا حياتنا الجديدة، فقد أصيب بأرق غريب، وكان إذا أغفى لايلبث أن يستيقظ على أحلام مزعجة، وقد ساءت حالته، وأصيب بنوبات قىء عنيفة، اضطر معها الطبيب إلى أن يشير بأن يلازم فراشه، وأن أبقى إلى جواره. وعندما استرد (كامل) عافيته، أردت العودة إلى عملى، ولكن (جمال) أصرَّ على أن أستقيل وأتفرغ للبيت، ولكنى لم أوفقه على ذلك، للظروف التى ذكرتها من قبل، كما أننى لم اوافق على إنجاب أطفال، إذا كنت لا أزال أتوجس - من جراء تجربتى السابقة- كما إننى خشيت ما قد يترتب على أية تفرقة فى المعاملة -بين كامل وأى طفل جديد- من متاعب. وكنت -فوق كل ذلك- قد تبينت أن زوجى نفسه أشبه بالطفل فى طباعه، وعناده، وأنانيته، حتى إنه كان لايتورع عن إثارة المشادات مع (كامل) وكأنه طفل مثله، إلى أن أشتد الشجار بينهما -ذات يوم- فضربه بعنف، وإذا الولد يهوى على الأرض، فيشج رأسه. وأسرع (جمال) يعتذر ويقسم لى بأنه لم يكن يتعمد ضربه. على أن الأنكى من هذا كله، أن (جمال) لم يكن يتورع عن أن يصب سخطه على (كامل) كلما غضب منى أنا، وبالأمس، دعا أخته إلى الغداء، وفيما كنت منهمكة فى إعداد الطعام، أقبل يعانقنى، فدفعته عنى قائلة إن لدينا ضيفة، وأن هذه الضيفة أخته هو، وليست أختى، فعض على شفته، وسار إلى حجرة الجلوس، حيث كان (كامل) يلهو فى أمان. فأمره بأن يخرج للعب مع أقرانه، خارج البيت، فلما أبى الصغير، دب بينهما شجار اضطرنى إلى أن أسرع إليهما، فأصطحب (كامل) ليكون بجانبى فى المطبخ. وأثار هذا التصرف زوجى، حتى أنه راح يوسع الصغير انتقادًا - أمام أخته0 وقسا فى لومه على كل تصرف، حتى اضطره إلى مغادرة المائدة باكيًا.. وما تزوجت لأول مرة -فيما أعتقد- إلا لأننى وجدت زميلاتى جميعًا قد تزوجن. كنت أنشد زميلة، وبيتاً هادئاً! وأردف الزوج يروى القصة من ناحيته: لقد تشاجرت مع عروسي بعد عشر دقائق من عودتنا من رحلة العسل!، وأغرب ما فى الأمر أننى كنت أسعى إلى راحتها فقد كانت متعبة -من جراء السفر- وأخذ الصغير يبكى ليستأثر باهتمامها، حتى ضقت فأمرته بأن يكف عن البكاء، ونصحتها بأن تسلمه إلى الخادم، وإذا بها تثور فى وجهى، بينما ارتفع صراخ الصغير وكأننى ضربته، فاضطررت إلى مبارحة البيت بعض الوقت. وساءنى -عندما عدت- أن سمعتها تقول إننى لم أكن أهتم بها، وإنما كنت أرغب فى أن أتركها لأول مشادة بيننا، وأسفت لسوء ظنها، وجلست أجفف دموعها، ولكنها نفرت منى وفى تلك الأثناء، أقبل (كامل) يطلب نقودًا ليشترى حلوى ووجدتها فرصة لاسترضائها واسترضائه، فأعطيته ما طلب، وإذا بها تستاء لأن الحلوى تصرف الصغير عن الطعام! وكانت تصر على أن تختار بنفسها ساعات الهوى بيننا، فإذا راق لى أن أغازلها، انتحلت من الأعذار ما يعفيها من مبادلتى الرغبة، وكنت أكبح عواطفى لأرضيها، وألتمس لها ما يبرر تصرفاتها من التجربة التى مرت بها فى زواجها الأول. لقد كانت هى أول حب لى، وقد رأيت فيها المرأة الوحيدة التى تصلح زوجة لى، ورغبت فى أن أعوضها عما لاقت من الحياة. ولقد حاولت أختى أن تنبهني إلى ما فى تربية ابن رجل آخر من متاعب وملابسات، ولكنى كنت أرى (كامل) لطيفًا، وكنت أعتقد أن بوسعى أن أكتسب وده، لولا تدخل أمه بيننا، وإسرافها فى تذليله. ولقد حدث مرة أن راح يعبث بأنفه وهو يجلس إلى المائدة فطلبت منه هى أن يكف عن ذلك، ولما لم يطعها، أمرته أنا بمغادرة المائدة، فإذا بها تغضب، وتطلب إليه العودة، ووجدته ينظر إلى متشفيًا، ولكنى آثرت التغاضى حسمًا للموقف. وكانت تعارض كل نصيحة أبديها فى سبيل تربية الصغير، حتى أننا لم نتفق قط على شىء يتعلق به، كانت تصر على أن تستبقيه بجوارها طالما كانت فى البيت، بينما كنت أفضل له أن يختلط بأقرانه. ولقد ابتعت له دراجة لأشجعه على ذلك، ولكن المحاولة فشلت، وفى ذات مرة عاندنى حتى استثارنى، فلم أتمالك أن ضربته، ولو كان ابنى لما أحجمت عن ضربه، وشاء الحظ أن يقع الولد فشج رأسه، وعبثاً حاولت أن أعتذر لأمه وأؤكد لها أننى لم أكن متعمدًا. وفى ذات يوم، دعوت أختى للغداء، وأنا أرجو أن أفخر أمامها بزوجتى وابنها، وأن أبين لها أننى سعيد، ولكن زوجتى أثارت نزاعًا بسبب الصغير. إن طفولتى لم تكن سعيدة، إذ كان والدى مزارعا فقيرًا وكانت أمى من نساء المدن اللائى يحتقرن الريف، وكانا دائمًا فى نزاع، حتى أننى كنت أكره البيت، ثم إننى لم أجد من يهتم بتعليمى، فرحت أجاهد نفسى، وأبذل جهدًا مضاعفًا لأمضى فى دراستى، وكان هذا الجهد يتطلب منى مزيداً من التركيز الذهنى، فنشأت أضيق بالضوضاء، ولم أكد أتم دراستى الثانوية، حتى قامت الحاجة إلى المال حائلاً بينى و الالتحاق بالجامعة، وفى تلك الأثناء دعيت للخدمة العسكرية، وأتاح لى ذلك ظروفًا مكنتنى من أن أستأنف الدراسة، فلما سرحت من الخدمة، استكملت دراستى العليا، وأصبحت مهندسًا معماريًا ذا مستقبل باسم، وكان من الطبيعى أن لايدع لى هذا الجهاد فرصة للتعرف بالفتيات. وهكذا وجدتنى مشوقاً إلى زميلة، وإلى بيت أستقر فيه وأعرف بين جنباته معنى الراحة والسعادة، فلم أكد أرى (سلوى) حتى تعلقت بها، وألححت عليها بالزواج، ولكم كنت أرجو أن تترك عملها وتتفرغ لى وللبيت، لاسيما وقد كانت تعود فى المساء متعبة، فتنصرف إلى ابنها، ثم تأوي إلى الفراش، وقد حرصت على أن تنام فى غرفة ابنها، كما أنها تنفر من أن تنجب أطفالاً. المشكلة الأساسية كاملة فى نفسيهما! وخرج الأستاذ (م. غ) من دراسته للزوجين بالحقائق التالية: كان الخلاف بين (سلوى) و (جمال) مرتقبًا، ولو لم يكن للطفل وجود، إذ أن المشكلة الأساسية تكمن فى نفسيهما: كانت (سلوى) تكره الرجال وتأبى أن يكون لواحد منهم سلطان عليها، نتيجة تفضيل أبيها لشقيقها عليها، لذلك شعرت بأنها أفضل من زوجها الأول، عندما خُيل إليها أن تشبثه بأمه معناه أنه يعتمد على هذه الأم، فاحتقرته، وفشل الزواج الأول. وزاد هذا الفشل من كرهها للرجال، فلما تزوجت من (جمال) كانت متوجسة من نتيجة هذا الزواج، كما إن نفورها من سلطان الرجل جعلها تعارضه فى كل شىء، وتصر على أن تختار بنفسها الوقت المناسب ليتطارحا الهوى، ثم إن شعورها بالذنب، إذ خيل إليها أنها السبب فى حرمان (كامل) من أبيه، كان سببًا فى نفورها من إنجاب طفل آخر. وكان (جمال يعانى) -منذ صغره- من الحرمان من الهدوء والسعادة المنزلية، وينتظر أن يجد فى زوجته زميلة تعطف عليه، وترعاه، وتتيح لقلبه الدفء، فلما وجدها تنشغل عنه بابنها، وتختلف معه من أجله، أصيب بصدمة قاسية. على أنه كانت ثمة نواح أخرى، يتفق فيها الزوجان: كان كل منهما قد تلقى دراسة عليا، وكان كل منهما يشد زميلاً فى الحياة، وكان (جمال) يأبى الطلاق، لكى لاتشمت فيه أخته، كما كانت (سلوى) تأبى الطلاق لكى لا تسجل على نفسها الفشل للمرة الثانية، ومن ثم أمكن إقناعهما بأن يعاودا التجربة من جديد، بمزيد من الاستعداد للتفاهم، بعد أن عرفا نواحى النقص النفسى لديهما. وبعد أن تعهدت (سلوى) بأن لاتنتقد معاملة زوجها لابنها أمام الابن نفسه، حتى لاتوحى للصغير باستغلال حنانها، والنفور من (جمال). وشيئاً فشيئاً، تحسنت العلاقات بين الزوجين، لاسيما حين تبينا أن تعاونهما كفيل بأن يمهد للصغير حياة أفضل!