البوتاجاز المسطح كانت الشعلة الواهنة التي يلفظها البوتاجاز المسطح من قلبه، هي وسيلتها الوحيدة للقضاء علي العفن المتكاثر في الطعام، لعدم وجود ثلاجة عن طريق غليه علي عين البوتاجاز، هذا إذا اعتبرناه مجازاً طعاماً. لم تكن الفتاة تدري أن هناك ما هو أفضل من ذلك لطهو الطعام، إلا حين سألتها الأم أثناء انشغالها بدهان ألواح حديد شراعة باب الشقة الضخم والتي تقوم بحماية زجاج الباب، تدهنها بالسلاقون البرتقالي الواقي لها من طبقة الصدأ، وذلك بعد كحت الصدأ من عليها ثم صنفرتها. - سألتها أن تخط كتاباً لعمتها تطلب منها أن يساعدوهم في شراء بوتاجاز فرن. وجمت الفتاة التي كانت في الثالثة عشر فترة، ثم سألت: وماذا يعني بوتاجاز فرن؟ - أجابتها المرأة: يعني أن نستطيع أن نصنع كيكاً وصواني يحمر وجهها في الفرن وطعاماً له مذاق مختلف. فتساءلت ببراءة: - يعني حينما يأتي الفرن سنطعم طعاماً آخر غير ما نطعمه الآن؟ - تنبهت المرأة إلي مقصد الفتاة الذي خرج عنها دون وعي، وقالت لها: إن شاء الله، فقط اكتبي رسالة الآن لعمتك تشكتي فيها من سوء البوتاجاز المسطح فوراً دون كلام كثير، في الفترة التي أعقبت إرسال الخطاب، أكثرت الفتاة من طرح الأسئلة حول شكل البوتاجاز وطبيعته، وكيف يعمل، وأخذت تمني نفسها بطعام جديد وحياة جديدة بعد قدوم البوتاجاز الفرن. مرت الأيام ثقيلة، وهي تنتظر وصول الضيف الجديد، ويهيئون له المكان، ثم يغيرونه ثم يعودون لنفس المكان الأول حتي تعبوا، واستقروا علي مكان خارج المطبخ، فليكن مكانه وراء الفوتيه الكبير في الصالة. فهذا مكان يليق به حقنا! وبعد ستة أسابيع من الانتظار المضني، كان أحد ما بالباب يكاد يكسر باقي زجاج الشراعة الذي يتقاسم مع لوح أبلاكاش رخيص مثقوب باقي باب الشقة لستر أهل البيت. - من؟ ألقت الفتاة تساؤلها - وهي فزعة - علي قارع الباب، ولكن الإجابة جاءتها بمزيد من قرع الشراعة زجاجاً وأبلاكاشًا تستطلع الطارق فإذا به يضع أصبعه في عينها فندت عن الفتاة صرخة من المفاجأة وإذا به يهتف افتحي أنا عزيز ابن عمتك. مدت يدها تفتح الباب وآلاف الصور التي رسمتها للبوتاجاز الفرن تتداعي أمام عينيها. مفاجأة أليس كذلك، كان عزيز يقف أمامها رافعا في يسراه شيئا ما يشبه طشتا متوسطا في كيس بلاستيكي، وكأنه في ختام عرض مسرحي، وقد وقف يحيي المشاهدين رافعًا يده بالتحية. رحبت الفتاة، وكذلك أمها التي أقبلت علي صوت الضيف وصافحته، وهي تنظر إليه تارة وإلي الكيس الضخم الذي يكاد يضعه علي رأسه تارة أخري. -معك حق، أعلم أنك في شوق إلي الفرن. - الفرن.. نعم أين هو. - تاتا.. تاتا.. ها هو الفرن العجيب، وشرع يحل الكيس كساحر والفتاة تنتظر أن تحدث معجزة من معجزات الساحر، فيخرج الفرن من الكيس. ها هو الفرن، وأخذ يرص قطعا لحلة ضخمة ليست جديدة حتي بل أكل عليها الدهر وشرب حتي طفح، ثم غطاها بغطاء مفتوح من أعلي إنها حلة الفرن، جل عمرنا وأمي تستعملها، لم نعرف الفرن هذا إلا حين أنهينا تعليمنا وتوظفنا وصارت لنا مرتبات، فجاء الفرن وحده دون عناء، كل شيء بموعد. - همت تسأله: وهل أتي عليكم الدور يوم وافترشتم بلاط المطبخ تصيخ فوقكم الصراصير؟ - هل جربتم البكاء فعزت عليكم الدموع؟ - هل جربتم أن تأكلوا فلم تجدوا غير طعام حمضان وخبز يسقي في ماء؟ - يعني هو البوتاجاز الفرن فقط الذي سنحرم منه، لا يهم، فالحرمان قد طال كل شيء، فلم يبق لهم إلا الهواء إن استطاعوا حرماننا منه، فعلوا، ويا ليتهم يفعلون. زي الكشافة صار ارتداؤها لزي فريق الكشافة بالمدرسة، هو منتهي أملها، فأخذت تتصور نفسها به تارة وهي تأمر التلاميذ أن ينتظموا في الوقوف، وتارة أخري وهي تسير بين الصفوف تنظمها بنفوذ ينبع من الزي الرسمي الذي ترتديه، فقد كان هذا الزي في المدارس الحكومية مثل مدرستها، يعني أنها ستصبح شرطة مدرسية بدرجة أعلي من صاحبات الشارات الحمراء علي أذرعهن الصغيرة فوق كم المريلة ال "تيل ناديه" كان هذا الذي استولي علي لبها يتكون من فستان بني اللون بوسط تهبط منه كسرات من القماش تغطي النصف الأسفل من الجسم لتصل حتي الركبتين. وهناك أيضا (باريه) بني يوضع فوق شعر الفتاة، حيث لم يكن الحجاب في هذا الزمن السبعيني قد ظهر بعد، يرتبط الفستان من الوسط بضفيرة مجدولة من القماش البيج تصل حتي الصدر بأزرار، وضفيرة أخري مربوطة بأزرار أيضا علي صدر الفستان معلق بها صفارة لزوم عمل الكشافة. وقعت في أسره حين فوجئت بصديقتيها، رحاب وأمل، ترتديانه ذات صباح في المدرسة وأخبرتاها بأنه زي الكشافة الذي يمكن لأي تلميذ بالمدرسة حين يكتب اسمه بالفريق، أن يكون له الحق في ارتدائه بديلاً عن المريلة. وحين سألت أمل عن مكان بيع الزي، أشارت الفتاة بيمينها ناحية باب المدرسة قائلة: عند هذا المحل المواجه لنا والذي لا يحمل يافطة، يكفي أن تعبري الطريق فقط لتأتي به. وفور انتهاء اليوم المدرسي. أسرعت للمحل، تسمرت قدماها أمام الواجهة الزجاجية فور وقوع ناظريها علي الرداء كان فخيماً. أنيقاً. ويقينا ستكون له دلالة مختلفة حين ترتديه هي، فهي وإن كانت لا تزال طفلة في الثانية عشرة، إلا أنها قد تعودت معاملة مختلفة من الآخرين. فهم يعاملونها علي أنها فتاة ناضجة علي الرغم من حداثة عمرها. كل تلك المحسنات قد تسد ولو قليلاً من فوهة بئر الخوف من المجهول، وعدم الثقة بالوجود كله عامة وبنفسها خاصة وإرهاصات المرض النفسي المتوارث من الأبوين الموصول بقلبها، والذي لم تستطع يومها ولا بعدها بزمان أن تعلم من أين ينبع وإن كانت دائما تشعر به يضخ سمومه في دمها. فلو ارتدت مع كل تلك النقم هذا الرداء الأنيق. فقد يهون من ألم الدنيا. كانت عيناها تتجولان فوق الرداء حينما اصطدمتا بورقة سخط فوق سطحها باللون الأسود ثمن الرداء (خمسة جنيهات)، تتابعت دقات قلبها بشدة حتي شعرت أن جسدها الضئيل سيرتطم بفاترينة زجاج البوتيك. حينها جري نهر الأحزان والخوف، بل والرعب من مجهول يخرج من فوهة بركان يدك قلبها الصغير. لم تستطع يوما أبداً أن تصل لمنبع هذا البركان. فحتي مريلة المدرسة كانت تخيطها الأم بيديها بالإبرة والخيط، فلم تكن تملك ماكينة خياطة. تشتري قماش النيل ناديه (باثنتي عشر قرشاً للمتر) وتظل علي متر القماش حتي تنتهي من خياطته كمريلة للفتاة. لم تصادف خياطة الأم للمريلة يوماً أبداً هوي في نفس الفتاة، فكانت تراها دائماً أقل من مرايل صويحباتها، بل وحتي زملائها من البنين، فالجميع في ذلك الوقت بالمدارس الحكومية، مثل مدرسة بورسعيد الابتدائية بالشاطبي - بنين وبنات - يرتدون مريلة المدرسة، إلا أن معظمهم وبرغم كونهم جميعاً يتدرج في مراتب الفقر المختلفة من مدقع إلي متوسط فبسيط، فإن غالبيتهم كانت تشتري المريلة جاهزة مقابل ثلاثة جنيهات ونصف الجنيه، كانت تتمني دوما لو اشترتها هي كذلك، لكن، ماذا تفعل وهي في أعماق الفقر (ترفل) ولم تطلب هذا يوما من أمها، لكنها فقط، تمنته. وتحت المريلة جورب أبيض يطول الركبتين مع حذاء أسود، كان عادة من بواقي المنشية، نظرت بوعي إلي زي الكشافة، وقد تبين لها أن ارتداءه هو قمة الكمال في الأناقة، وقد يكون قمة الكمال في الحياة كلها. سألت المرأة العجوز أن تشتريه لها. العجوز التي كانت في شرخ الصبا، لم تجبها سوي بكلمة واحدة: لا. صدمة من صدمات العمر جاءتها تجري، مبكراً. عادت تبكي حرماناً جديداً فوق حرمانها الذي تعيش فيه، أو يعيش فيها، ويفترسها، باتت لا تتصور هيأتها في المدرسة بغير زي الكشافة، تسير بخيلاء بين صفوف التلاميذ في الصباح، تتيه بنفسها بينهم بزيها الرائع، إلا أن ذلك لم يتحقق أبدا سوي بخيالها الواسع الذي لم يستطع الفقر أو المرض أن يحدا منه أبداً. استخدمت وسائلها الضعيفة في إقناع أمها، إلا أن المرأة التي كانت تشفق عليها من داخلها تعجز عن تحقيق حلمها، كما أطلقت عليه الفتاة، وتعجز في النهاية عن الاستمرار في صمتها أمام سيل الدموع والآهات التي كانت تدك جدران المطبخ، حيث تجلس الفتاة لتذاكر (للابتدائية) ظهرها للحائط ونافذة المطبخ، المنفس الوحيد علي الخارج، والذي يسمح بتجنب الرائحة القادمة من الحمام. فلم يكن في حسبان من قاموا بالبناء أن هناك من سيسكن المطبخ أبداً. صرخت المرأة في وجه الصبية ذات الاثني عشر خريفاً قائلة: خمسة جنيهات يعني إيجار حجرتي الشقة للطالبات مدة شهر، فكيف نطعم الشهر القادم إذا طاوعتك في هزلك هذا. التفتي لمذاكرتك وارتد مريلتك مثل باقي البنات والأولاد. كانت المرأة تتحدث وهي تستند بمرفقيها علي رخامة المطبخ، القطعة الوحيدة التي قد تكون لها قيمة هناك أو بالمنزل كله، فأصبح وجهها للحائط وظهرها للفتاة، ثم أردفت: أفيقي يرحمنا الله جميعاً بك. فأنت الأمل بالغد. أدخر القادم كله فيك أنت، نحن بالكاد نجد اللقمة - دعينا علي قدنا - الأحلام هذه لمن لهم سند، أما نحن فلا سند لنا، كشافة إيه التي تبغينها؟ وبرغم أن وجهها لايزال للحائط، فقد لمحت الفتاة الغاضبة الدموع تتساقط من مآقيها. علي سطح الرخامة كان ذلك كافياً لوأد الأمل في مجرد أمنية تمنتها، مطلب طلبته، وللمرة الأولي في حياتها القصيرة. ما حدث كان كافيا لإعراضها عن السؤال حتي عن المباح من الأشياء، فكانت إذا عنت لها شهوة، عادها من عالم الغيب صوت المرأة العجوز تؤنبها وتنهيها أنها فقط: ترغب، صارت كل الأشياء في شريعتها محرمة. في رحلة شهر العسل كان الفارس الرائع إذا لاحظ نظرة عينيها قد رنت إلي شيء ما، فإنه يخصها به من فوره، ويسألها عما يرضيها إتيانه، فكانت ترفض، وظلت ترفض خشية أن تطلب فتؤنب فمازالت تخشي دموعًا بين جدران ضيقة في مطبخ تغرقه رائحة دورة مياه في شقة من حجرتين يؤجرهما أغراب، كتب عليها الدهر أن تظل غريبة فيها مقابل خمسة جنيهات في الشهر، لايزال صوت المرأة العجوز المعصوب بالدموع يشد حلمة أذنها، فتخشي أن تسأل حين ترغب، فلعل صوت كصوتها يرد مثلها ويذكرها بأن هذا الشيء ليس لها، فكرهت كل الأشياء وكل المتاع، ويا للعجب، فحين صار المتاع متاحًا، والأشياء لا أول لها ولا آخر، ما عادت تحب، وزهدت في جلها حتي إن هذا الفارس النبيل داعبها مرة قائلاً: كل هذا الحسن وأراك حين ترتدين ملابسك كصبينا الصغير حين يجرب ذوقه في ارتداء الأزياء، ابتسمت وصمتت فهو لن يستطع أبداً أن يدرك، لأنه أبداً لن يسمع صوت العجوز تنهي منذ عشرين عاماً عن الذي تمنته يومها، لكنها حين سمعته الفتاة المليحة مثل أمها أوشكت أن تسأله: هل تستطيع أن تسمع صوتاً شجياً بالدموع مبللا ينهي دائما؟ وإن كان الجسد قد قيد له حظ سعيد بمقاييس البشر، فسكن قصراً منيعاً فإن شيئا بالروح دائما ما يستدعي أحزاناً لا تجد ذاتها إلا فيها، يغادر الفارس والابن فتتجه هي إلي مطبخ القصر المطل علي حديقة مترامية الأطراف لا تغادره إلا مضطرة، وترتقي أحد مقاعد البار به، فتري البنفسج الذي زرعته في كل مكان مشرئب ينعي الحياة التي ستغادرها بعد قليل من النافذة الزجاجية الضخمة، حيث تحرص علي أن يكون أمامها دائماً. كيف تشتري بيضا بيضة واحدة فقط، تطش في الطاسة السوداء - ذات النصف يد - مع بقايا زيت مقدوح عدة مرات من قبل، تخلط مع كثير من الدقيق المتاح ليزيد حجم البيض وتصير كافية لإطعام فردين. تقف العجوز لتعده لهما صباحًا ولا تتذوقه، عشرون عامًا لا تتذوقه باعتباره طعامًا مميزًا، فكانت تكتفي بالوقوف إلي المنضدة الفرومايكا فسدقية اللون، أطلقوا عليها (مائدة المطبخ) مع أنه لم يكن هناك غيرها بالمنزل، كانت تبدو في هيأتها الجيدة كقطعة غريبة عن باقي الأثاث، تقف بينهما، الفرخان الجائعان اللذان لم تشبعهما يومًا اللقيمات الجافة أو الجبن الأبيض الذي لم يستبدل بطعام غيره إلا حين الميسرة، حيث تتوافر بقايا الخبز الفينو (أبو قرش صاغ الرغيف) تحمص في الصينية علي عين البوتاجاز، ثم تدهن بالزبدة الصفراء المجمدة أم خمسين قرشاً الكيلو جرام من الجمعية، والتي أغرقت بها أمريكا المجمعات الاستهلاكية كمعونة لمصر عقب توقيع كامب ديفيد، إلا أن السادات استكثرها كصدقة، وقرر بيعها، فكانت العجوز تقف في الطابور لتأتي بربع كيلو جرام منها، وتسابق خطاها المسير نحو المنزل لتكشط بالسكين رقائق رقيقة تضعها علي كسر الخبز الفينو بعد تحميصه في الصينية، ثم ترش عليه قليلا من السكر التمويني، وتقسم في طبقين نصيب كل واحدة منهما، وأمام كل طبق كوب من اللبن والذي حرصت العمر كله أن توفره لهما ولو أكملت الكوب بقطرات من دمها. كانت حين تقدم لهما هذه الوجبة ترمقهما حتي تضع إحداهما قضمة الفينو المحمصة في فمها و(شفطة) اللبن وراءها "تبتلعها.. تسألها وهي باسمة ابتسامة من يأمل في الجزاء رضاء من يحب: هه.. حلوة" نعم يا أمي. بالهناء والشفاء. تقف إلي المنضدة الفرومايكا بجوارهما، تقطع قرص البيض بالشوكة والسكين، وكأنها تقطع شرائح ديك رومي، تضع الطعام بالشوكة في فم إحداهما وتنفخ فيه من روحها ليبرد حيث العجينة مشبعة بالسخونة، وتتمني مع نفخة روحها أن تكبر الفتاة سريعًا لتطمئن عليها. لم يكن شراء البيض يومًا عملاً يسيراً ، فمعاش الأحد عشر جنيها وأربعين قرشاً لن يمكنها من شراء بيض نظيف مثل معظم الناس، فكانت العجوز تمر ببائع البيض تتفقد ما عنده من (الكسر) تشتريه بربع ثمنه، وأحيانا لو توافر معها فائض من القروش، كانت تشتري الكرتونة كلها. كانت الفتاة تعتقد أن هذا هو الوجه الطبيعي للحياة، وأن الظلم الاجتماعي الذي يلحق بهن يجعل من الجهر بالفقر شيئا عادياً، لذا فحين أصبح لزامًا عليها أن تذهب لشراء البيض، كانت تذهب صارمة، حازمة بلون ردائها الأزرق أو الرمادي أو البني من لون روحها المكتئبة أبدًا، تقلب في البيض الموضوع في الكرتونة المخصصة للبيض الكسر. تقرب البيضة من أنفها تشمها فإذا قررت أن تأخذها تسأل عن سعرها، 4 قروش للكسر، أليس كثيراً؟! لا ليس كثيراً.. ده البيض السليم ب 6.5 قرشا. تضع البيض الذي تنتقيه في سلة أو شبه سلة بلاستيكية باهتة اللون رائحتها العفنة تملأ المكان من كثرة التصاق زلال البيض بها مرات ومرات دون تنظيف. غالبًا ما كان يضع لها ما تشتريه في كرتونة بيض قديمة، ويغطيها بورقة جريدة صغيرة لا تلبث أن تطير بمجرد أن تشرع في العودة مرة أخري للمنزل. أما استخراج البيض من الكرتونة، فتلك معركة جديدة حيث الماء الأبيض قد خرج من شقوق البيضة إلي الكرتونة وأصبح كالغراء اللاصق لقشرة البيضة. فإذا أرادت العجوز أو الفتاة استخراج واحدة، فعليهن أولاً: تخليص قشر البيضة من الكرتونة مع المحاولة المستميتة للاستفادة من كل نقطة من زلال البيضة عن طريق مسحها بإصبع يدها اليمني في الطاسة ثم تأتي بمعلقة صغيرة تغرف بها باقي السائل المراق في الكرتونة. كانت الفتاة كثيراً ما تشعر بالقرف من تناوله، لكنها لا تلبث أن تبتلع المرار في جوفها فما عرفت وقتها من زاد يملأ جوفها غيره. الكافيار أو بيض السمك هو وجبتها المفضلة، له فوائد لا تحصي بالإضافة إلي طعمه الذي تستسيغه ولا تمله أبدًا. ولكن ما الرابط بين بيض السمك وبيض الفراخ "الكسر" الذي كانت تأكل منه حين التفكه في الطعام؟ لعلها انحناءة العجوز الرائعة إلي جوارهما علي رخامة المطبخ حين تدعوهما لتناوله بكلمات بسيطة مثل: البيض مفيد جدًا كله كالسيوم! وأي فائدة في بيضة مفتوحة منذ أيام عند بائع البيض، وقد تكون "ممششة" فاسدة، وهي تائهة كذلك في كمية لا بأس بها من الدقيق قد طهيت في زيت سبق "قدحه" ألف مرة من قبل. كانت فقط تحلي بضاعتها الفقيرة التي لم تكن تمتلك غيرها تقدمه لهما. في الدرجة الأولي في الطائرة المتجهة إلي باريس، الطبق الأول دائما "الأورديفر" هو "الكافيار" علي الرغم من إعجابها الشديد بهذا الطبق فإن الملل قد أصابها من كثرة تناوله. نظرت إليه وجالت بخاطرها في الذي لم تستطع نسيانه أبدًا. كان بحلقها ريق بطعم بيض آخر غير الذي تتناوله "الآن". وبعد قليل، وحين جاءت المضيفة وانحنت أمامها انحناءة مألوفة لها، ترفع طبق "الكافيار" الذي لم تقربه، نظرت في داخل عينيها وابتسمت. اخترقت عينيها حتي قلبها، إنها أبدًا لم تكن المضيفة. آلام قلبها لم تبارحها أبدًا، فلا تزال وهي في مقعد ال »IP ، علي طائرة الإيرفرانس المتجهة إلي باريس، لحضور مؤتمر "النهوض باقتصادات العالم الثالث" تبكي انحناءة ظهر العجوز، ومرض نفسها العليلة، خوف ووسواس قهري واكتئاب لا يذهب، أبكي عنها خوفها من كل شيء، فأنا أيضا خائفة من كل شيء.