تصحبني رواية "الفصل والوصل " للكاتب الروائي سعيد سالم، الصادرة عن هيئة الكتاب، كي أنطلق معها في رحلة كونية فوق أجنحة من سحب الضياء، حيث أن الكثير منا نحن البشر يشغله التفكير بعالم الغيبيات محاولاَ الاجتهاد في فهمه.... ومن البديهي أن يستحيل علينا تحديد الملموس في وحدات الكون بمختلف مسمياتها وتعدد أزمنة وجودها فيعيش الإنسان حالة صراع مع وجود يوصله بالحياه أخذاً وعطاء حتي ينفصل عنه حين تعود الروح إلي بارئها. يكتب الكاتب في مقدمة الرواية: "من المؤكد أن زمنك سوف يولي منك بالتقادم وسوف يتركك علي حافة الموت والحياة معا. لا تبتئس فتلك نهاية الجميع بصورة أو بأخري." نري أن الكاتب امتطي موجات لا مرئية تخطي بها عالمنا المحدود استشفاف الحقيقة مداها الدار الآخرة منذ رسمت أولي خطواتنا علي أرض النسبية؟!فأصبح أمامه خيارين أوقفاه حائرا في المنطقة الوسطي ليقول: "استعرض واسترجع بذاكرتك كيفما شئت ولكن أعلم أن أمامك خيارين، الخيار الأول أن تستزيد مما تبقي لك من قدرة علي الاستمتاع بكل المتاح.الخيار الثاني أن تتخلي عن كل ما تمتلك من مال وشهرة. ولن تستطيع أن تختار ما لم تعرف كيف تعرف نفسك." لعلي قد عايشت ملحمة أسطورية بعد أن قرأت الرواية التي انطلقت بي إلي فضاء رحب الآفاق لاستقبالي في عالم أدخلني ما بين رؤي تأملية في الخيال وتدارك الواقع مدي التطبيق... وكيف تتفاعل عناصر ينتج عنها مركبات فكرية تشحذ العقول وتنعش القلوب مع كاتب قضي حياته إبحاراً في علم الهندسة والإنطلاق مناجاة لمعجزة هذا الوجود منشدا الخلاص الذي تأمله روحه في الملأ الأعلي ثم يعود ليمضي فوق التضاريس متلهفا ملذات الحياة بحس تتعاقب فيه موجات البحر صعودا وهبوطا فتنتابه حيرة برزخية حين ينفصل عن مادية الأرض ليتصل بعالم هلامي الصورة يستشفه خياله ليذكر قلبه نذير يهاتفه بأن الحياة الدنيا إلي تبدد وفوات أمام شوق اللقاء بمن نحن منه و به وإليه نعود لحظة تمضي أرواحنا محلقة فيما وراء الزمان. يقول كاتبنا: "إن المحبة هي ثمرة المعرفة وإن لم أعرف نفسي فلن أعرفه وإن لم أعرفه فكيف أحبه؟ وإن لم أحبه فكيف أجرؤ علي التفكير في طلب الخلاص المعلق بمشيئته."؟ معني ذلك أنه لا سبيل للخلاص الذي يأمله الكاتب إلا المحبة التي تضيء القلوب حتي تبلغ العقول حد البصيرة... وحين نمضي في رحلة الحياة متلفعين ثوب طقسها و طقوسها يعبر عن حركتنا المنطلقة مع دوران الأرض قائلاً: "الرحلة طريق اغتراب دائم بدأ باغترابك عن وطن عالم الذر حين أشهدنا الله علي ربوبيته... ثم اتخذت من رحم أمك وطنا جديدا، ثم لم تلبث أن اغتربت عنه بالولادة لتتخذ من الدنيا وطنا...ثم ها أنت تغربت عنها الآن بحالة تسمي سفر وسياحة.... وفيما بعد تقترب عنها بالكلية الي وطن يسمي البرزخ تعمره مدي الموت ليكون وطنك قبل الأخير.... ثم تغترب بعد ذلك الي أحد الموطنين، إما الجنة و إما النار، فلا تخرج ولا تغترب فتلك آخر أوطانك." ثم يعود ليحدثنا عن جدلية الصراع بين الزهد والرغبة إقداماً علي المشهيات أو قمع الشهوات فكل أمر مهما طال أمده هو في المضئ إلي زوال... يتمثل ذلك المعني في رسائل لرجل الدين الذي يستدعيه خياله وهو من سماه الشيخ منصور إذ يقول: "اعلم يا بن المصري ما لم يكف الخوف جوارحك عن المعاصي ويقيدها بالطاعات فخوفك الذي يؤلمك أكذوبة... فخف قدر ما تستطيع فمن خاف الله خافه كل شيء". لي رأي قد يختلف نسبيا عن الخوف الذي يحدثنا عنه الكاتب... فالخوف بمعناه المجرد هو حالة تردد بين قبول الأفعال ورفضها وعادة ما يكون متمثلا في التعامل مع ديناميكا الحياة وصراعها مع الأحياء بين تناقضي ما وراء الطبيعة وقانون التطور. لكن الذات الالهية جل جلالها عن ملحمة الوجود العبثي.. لذلك لو بدلت الرهبة أو المهابة بالخوف كما جاء في الآية الكريمة: "يا بني اسرائيل اذكروا نعمتي عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون". تلك الرهبة هي الحقيقة الراسخة سواء أدركها البعض أم لم يستضيء بها إدراكه... حقيقة تصحبنا لعوالم الفكر والتفكر في خلق السماوات والأرض.. إبداع الواحد الأحد لنتحرك بإرادته التي تثري النفوس موجهة أرواحها صوب نوره. يعود الكاتب ليحدثنا عن التغير الظاهري في الوجود زمانا ومكانا وذلك أمر منطقي فهو يسعي لإنهاء حساباته كي يجد لتدافعها مقرا حيث يعصف به التفكير بين متاهات نفسه والكون فينشد المخرج قائلا: "للوصول إلي السر توجب أولا أن أنهي حساباتي مع نفسي بحيث تشمل الماضي والحاضر معاً من خلال الفرجة علي الناس وأحوالهم والبحث فيهم عن معني لوجودي ومخرج لأزمتي حتي ألاقي صاحب السر الأعظم وقد صفاله قلبي تماما بحسم معضلتي الكبري وحصولي علي الراحة الأبدية". لعل قلبا كالنبع الريق هو الذي يستنشق الحياة عطرا للنور حين تفتنه مباهجها يمزج فيها مايهوي فكانت معني يعبر عنه الهاتف قائلا: "صب لنفسك من إبريق العلم ما تستطيع من حلاوة ومن إبريق الصبر ما تستطيع من مرارة وعندما يمتزجان سيأتيك ما تبحث عنه". ثم يعود ليذكرنا بفضل التسامح مع النفس علي عقول تتحرك تلا فيفها كدوامات البحر تلك التي تنعم بالحلم حين تظلها أنوار المحبة. لذلك كان عليه أن يسعي لتحقيق ما تصبو إليه نفسه... بأن قام بزيارة واد بعيد عن تكدس المدن ليضم أنفاسه إلي تاريخ قدره آلاف من الأعوام...حين وصل تلك الأرض أحس بأنها وطنه الذي عاش حنين ظاميء يتمني أن يرويه نسيم روضه.... فيقول: "ما حدث فاق توقعاتي لهذه الزيارة بما يفوق الوصف موجات متعاقبة من الفكر والتأمل انصهرت في انصهار المقابر الإسلامية والفرعونية والمسيحية التي انهال عليها الدهر بالأتربة والأنواء لكنها بقيت خالدة.. وأنا واقف أمامها كالمخدور.. إنها غيبوبة سكر مقدسة تضع مابيني وبين الخلق فاصلا وما بيني وبين الرب واصلا." ويظل يتساءل عن ماهية الزمن وكيف لنا أن ندركه وهو الصاخب الصامت المتغير في علم العقول وعالمها الحاضر والمحير في علم الكون وعالمه الغائب. حين تتأرجح النفس البشرية بين الحاضر والغائب ينتابها الشرود في هلامية خيال قد يقتادها إلي غياهب لا يحدها عقل. فأين نحن من ألحان الزمن السرمدية الإيقاع ومن إنطلاق صداها؟! مابين الحياة والموت، كل ما يجئ إلينا أو نمضي إليه متاه في بوهيمية سراديبه، إن كانت حياة علي الأرض فهي محدودة بماقَدر القادر وإن كان موتا فهو من علم الواحد القادر. ريثما يتفكر الكاتب فتنابه رجفة عاصفة تدعوه للتساؤل قائلاً: "لكن ماذا بعد" ؟! "أي حيرة وأي عذاب أيتها المخلوقات البشرية وأي الآراء يرضيك يا حق لأتحرر من طينتي العاشقة المعشوقة فأقترب منك مغمور بالسكينة المقدسة" . تذكرني تلك السكينة بأبيات لي أقول فيها: "أيها العاشق ألحان الوجود أين تمضي في رؤاك الحالمة بقفار بالأغاني لن تعود بين أفق ورياح آثمة . لعل مضمون الأبيات يتفق نسبياً مع حالة الزهد التي تنتابه فيري ما فوق الأرض وتحتها لا قيمة له فيتجلي تعبيرالمهندس هنا بقوله وهو المهندس: "إن المسألة برمتها لا تساوي أكثر من صفر مكعب لا يعلي عليه." ويعاوده هاتفه مخاطباً: "ليس أمامك إلا أن تتعلم حقيقة التوكل بأن تصير موحد القلب مطمئن النفس إلي فضل الله و اثقا بتدبيره دون النظر إلي الأسباب الظاهرة التي تكاد تهلك في مواجهتها." لكنني أري أن المواجهة معضلة لإنسان تعود أن يتنفس الحياة موسيقي وأناشيد تعانق الأصيل والصباح. يفتح صدره لاستقبال الشمس لترقص تنهداته مع بريق طيوفها... يصافح البشر باختلاف أجناسهم وألوانهم و دياناتهم لقاء محبة تنعش القلوب وتغمرها أفراحاً وودا... يعشق الفن.. واقعا وأساطير.. ينصهر مع الخيال ابتهالات وصلاة... محاولا الفكاك من معضلة تكبل أجنحته دون التحليق في عالم الجمال ويتساءل: "هل هناك حب يحيا بلا قرب.. وهل هناك زرع يحيا بلا ماء؟يا أناشيد الرحمة ويا كلمات الوجد ويا حروف الموسيقي، أليس العذاب بعينه هو حرماني من لقاءات الوجد والأنس والمناجاة التي أتوق إليها؟" "أليس الحرام نفسه هو السقوط تحت أقدام هذا العالم الذي لا يطاق بخداعه وأكاذيبه وتصنعة و قبحه وساديته"؟ تلك كلمات تؤكد احتياجنا للسكينة المقدسة... بدايتنا مع الأزل ومقرنا في الدار الأبدية الموطن الأخير. سكينة قد ينعم الله بها علينا إذا ملكنا القدرة علي الإقتراب منه والتوحد به فنصبح جزءاً من ذاته ينتشر طيوفاُ تسكن في الملأ الأعلي قلب الملكوت. ما أروع اندماج بين الفصل والوصل حين عبر عنه سعيد سالم معطيا المزج عنوانا ليؤكد صدق هاتفه ونبوءة أمه اللذان تمثلا في أرقي حس إنساني النزعة لقدسية الضمير بعد حالة الصراع بين إنفصال واتصال واصلا إلي اليقين الذي ينشدهفي مدن الحب علي أرض السكينة فكان حسم القضية في نهاية الرواية لعله بداية لأولي لخطوات التصالح مع النفس والآخر في صورة نداء يوجهه لكل البشر قائلاً: "أغث نفسك بنفسك حتي تصل بإذن الله". "واصل السفر والمشي والتأمل والتفكر حتي تدرك مقام المحبة". "تزود علي قدر نيتك للقرب.. فالمسافة قريبة رغم أنها بعيدة."