لعلي شعرت بفرح خاص حين وصلتني دعوة من مؤسسة "راجدال" الأمريكية لإقامة أدبية بمدينة شيكاغو، إلي جانب المشاركة في بعض الفعاليات الثقافية هناك مع عدد من الكتاب الأمريكيين والأوروبيين لمدة شهرين.ولعل للفرح بزيارة هذه المدينة أسبابا متعددة لديّ؛ فقد كانت تخايلني زيارتها منذ عدة سنوات،ليس فقط لأنها واحدة من أكبر مدن العالم، وثالث أكبر مدينة في الولاياتالمتحدةالأمريكية، ويعتبرونها العاصمة غير الرسمية للغرب الأوسط الأمريكي،إذ صارت اليوم مركزا عالميا مهما للتجارة والاقتصاد والصناعة،بل لأنني أيضا -كنت ومازلتُ- أري "شيكاغو" مدينة ذات غواية خاصة،مثيرة للخيال بتنوعها الثقافي والبشري وبفيض حكاياتها التي لا تنتهي. وصلت المدينة في منتصف الليل تقريبا بسبب بطء الإجراءات في مطار أوهير الدولي، لكنني حمدت الله أن السيدة الأمريكية التي كانت تنتظرني خارج المطار لتنقلني إلي مقر إقامتي مازالت موجودة، وقد تحملت بصبر مشقة الانتظار لأكثر من ساعة ونصف رغم الأمطار الكثيفة و التي لا تكف عن السقوط طوال العام علي المدينة. رحبت السيدة بي مبتسمة فداعبتها قائلة :" توقعت ألا أجدك وأنني سأضيع حتما في هذه المدينة المرعبة". انفجرت في الضحك حين قلت لها ونحن في الطريق إلي مقر إقامتي " إن الصورة الشائعة لدينا-نحن المصريين- عن هذه المدينة منذ أن كنا صغارا أنها ليست سوي مركز للعصابات الكبري". حين وصلت مقر الإقامة في مؤسسة "راجدال" وجدت الدنيا ساكنة وصامتة تماما ،ربما لأن الوقت كان متأخرا جدا. فدخلت إلي الاستديو المخصص لإقامتي، وكان يقع في أحد المباني الثلاثة المخصصة للكتّاب والفنانين،وأذهلني إلي حد بعيد حيث يبدو أقرب إلي التحف الفنية. من المؤكد أن تجربة العيش في بيت واحد مع أكثر من عشرين كاتبا وفنانا (بينهم كاتبات وفنانات بالطبع) من جنسيات متعددة -وإن كان غالبيتهم أمريكيين جاءوا من ولايات أمريكية مختلفة -لهي تجربة مثيرة حقا. كان كل منّا يقضي يومه بطريقته أو يرتب مع الآخرين ،ولا نجتمع إلا في المساء علي العشاء. وبعدها نبدأ لقاء لا يحضره سوانا نتبادل فيه النقاش حول قصيدة أو جزء من رواية لأحد الكتاب المشاركين. بالإضافة إلي هذا، كانت هناك فاعليات نحضرها أو نشارك فيها معا في قاعات المؤسسة المجهزة لهذا الغرض. وكان من ضمن أنشطة الفاعليات مثلا أن يخصص لقاء لكل كاتب أو كاتبة كي يقرأ نصوصا من كتاباته.وبعدها يُقيم الجمهور والكتّاب الحاضرون حوارا مفتوحا مع هذا الكاتب. كنت الكاتبة العربية الوحيدة وسط هؤلاء جميعا،وهو ما جعلهم في الندوة المخصصة لي يسألونني عن التيارات الشعرية الجديدة في مصر،وعن طبيعة التحديات التي تواجهها الكاتبة العربية والمصرية تحديدا الآن؟ وهل اتسعت مساحة الحرية المتاحة لهن بعد ثورة 25 يناير أم أن العكس قد حدث؟ من خلال أسئلة الكتاب والحضور اكتشفت أن الصورة عن أدبنا العربي هي صورة بها كثير من النمطية، وإننا بتنا بحاجة كبيرة إلي حركة ترجمة عربية أكثر تنظيما،خصوصا للكتابات الجديدة في مصر والعالم العربي لتصحح تلك الصورة . ولعل ما جعل للإقامة طعما مميزا هو وجود فنانين تشكيليين إلي جانب موسيقيين أمريكيين من الشباب،كانوا يقيمون حفلات أسبوعية في الإقامة تفتح للجمهور بتذاكر لصالح مؤسسة راجدال.وكانت أحب الأوقات بالنسبة إليّ حين أذهب أحيانا لحضور بروفات هؤلاء العازفين ليلا. جولات في شيكاغو "يمكن للمرء أن يعيش في هذه المدينة الساحرة بحق لمدة شهرين متصلين دون أن يحتاج إلي وسائل لتسليته،مكتفيًا بمتعة واحدة هي السير فقط في شوارع المدينة دون أن يدركه الملل". هذه العبارة التي قالها الكاتب الأمريكي "مارك توين" عن مدينة "سان فرانسسكو" الساحرة يمكنها أن تنطبق أيضا علي مدينة شيكاغو. وكعادتي حين أسافر إلي أية مدينة جديدة خارج مصر أعد لنفسي برنامجا خاصا لأري بعض الأماكن التي يمكنها أن تعكس روح المدينة وثقافتها ووجوهها الخفية. بدأت جولاتي في شيكاغو -التي يطلقون عليها "مدينة الرياح"- بالذهاب إلي بحيرة ميشيجان، والإبحار لمدة ساعة في باخرة كبيرة، ثم التجوال بعدها في" النيفي بير" Navy Pier ، وهو خليج يقع علي بحيرة ميشيجان،وبه الكثير من المحلات والمطاعم الشهيرة . وبرفقة الباحث والصديق المصري المقيم بأمريكا"عاطف سعيد" ، أقدمت لأول مرة في حياتي علي الصعود إلي ناطحة سحاب، وتسمي " برج ويليس " Willis Tower) ( برج سيرز" Sears سابقا ،وهي تعد أعلي ناطحة سحاب في الولاياتالمتحدةالأمريكية ؛إذ يبلغ ارتفاعها 10451 ،وتبلغ طوابقها 103 طابقا، ويزورها أكثر من مليون زائر سنويا. و كم هالني المنظر الجميل والمرعب معا في الوقت ذاته، حين وجدت نفسي أقف في غرفة زجاجية بمفردي،أسترق النظر إلي العالم أسفل البرج وثمة ارتعاشة عجيبة تسري في جسدي كله. البحث عن ساحة الهايماركت ربما من الحكايات التي لن أنساها أبدا، تلك التي عشتها خلال فترة إقامتي هذه،حين قررت بعد القيام بعدة جولات وزيارة العديد من الأماكن في شيكاغو مثل: متحف الفن ودار الأوبرا وحديقة الألفية وأشهر المحلات والأماكن في وسط المدينة، أن أخصص يوما لزيارة ساحة "الهايماركت"، وهو المكان الذي جرت به أحداث تاريخية شهيرة يرجع إليها أصل الاحتفال بعيد العمال في العالم كله ،حيث حصلت نزاعات في مدينة شيكاغو الأمريكية بين العمال وأرباب العمل بعد اجتماعٍ بدأه العمال في الأول من مايو (1886) واستمر حتي الرابع منه، مطالبين بتخفيض ساعات العمل إلي ثماني ساعات، وتحسين الأجور.وقد اتسعت رقعة الاضطراب لتمتد إلي ولايات أمريكية أخري،شارك فيها عموم الفلاحين والحرفيين والتجار والمهاجرين آنذاك ،فما كان من الشرطة إلا أن فتحت النار علي أربعة من المضربين في شركة ماركورميك للحصاد الزراعي فسقطوا قتلي. بعدها تجمع حشد كبير من الناس في اليوم التالي (يوم الثلاثاء 4مايو- 1886) في مسيرة سلمية في ساحة الهايماركت لدعم العمال.وظله الحدث سلميا إلي أن تدخلت الشرطة لفض المسيرة ،فألقي شخص مجهول قنبلةعلي الشرطة فتدخلت قوات مكافحة الشغب مما أدي في النهاية إلي سقوط ضحايا من رجال الشرطة والمدنيين معا. وحتي لا أضيع في وسط المدينة وأصل سريعا إلي ساحة الهايماركت ،أخذت خريطة معي لتعينني علي الوصول إلي مكانه. فبعد أن نزلت من التاكسي بدأت أسأل عن المكان،فاكتشفت أن أغلب المارة سواح جاءوا لزيارة المدينة في عطلات الصيف .أحدهم علق علي سؤالي ضاحكا" أنا مثلك تائه في المدينة". أخيرا وجدت أمريكيا من سكان شيكاغو،الذين ولدوا بها " تقريبا في الستين من عمره" ، ففرحت و سألته عن مكان "ساحة الهايماركت" فقال لي وهو يتأمل حيرتي، إنه يعرف الاسم والحادث التاريخي الذي جري به، لكنه لا يعرف أين يوجد بالضبط!! لكنه عرض عليّ أن يشاركني مهمة البحث عن المكان . بعد أن فشل الرجل مثلي أن يحدد المكان عبرالخرائط،اتصل هاتفيا بالعديد من أصدقائه القدامي بالمدينة يسألهم عن ساحة الهايماركت" فقالوا له نفس الإجابة تقريبا التي قالها لي: "نتذكر الاسم لكننا نجهل موقعه الآن". بعد أن أمضينا أنا والرجل المسن أكثر من ساعتين في البحث بلا جدوي ،وجدتني مرهقة أشفقت علي الرجل من شدة حرارة الشمس وارتفاع نسبة الرطوبة خاصة أننا كنا وقت الظهيرة. أصابني الإحباط حين أدركت أن المكان الذي أبحث عنه تغير اسمه،و لم يعد له وجود إلا في كتب التاريخ فقط؛ فقد تحولت ساحة الهايماركت الشهيرة إلي مجموعة من المحلات والمجازر والمطاعم يأتي عليها الكثير من السائحين للفرجة ولتناول الوجبات الشهية دون أن يعرفوا تاريخية المكان.