متدين بالفطرة، فتراكم الخبرات الدينية من الأديان المختلفة وتلاقيها علي أرض الكنانة، مع وجود الأزهر منذ أكثر من ألف عام كأكبر جامعة إسلامية، أصبح التدين عنصرا فعّالا وأساسيا في تكوين الشخصية المصرية، ومفتاحا هاما لفهمها، بحيث يندر أن تري سلوكا إلا ووراءه مفهوم أو دافع ديني. هكذا يبدأ الدكتور محمد المهدي (أستاذ التحليل النفسي بكلية الطب جامعة الأزهر) تحليله للشخصية المصرية، وأهم سماتها، وصولا إلي مفاتيحها. هل كان لتلاقي الأديان الثلاثة علي أرض مصر أثر في تكوين الشخصية المصرية؟ - التدين عنصر فاعل وأساس شديد الأهمية في الشخصية المصرية، وهو يكاد يكون مفتاحا مهما لفهمها، نظرا لتراكم الخبرات الدينية من الأديان المختلفة وتلاقيها وتناميها علي أرض مصر، فعلي أرضها نشأت الديانات المصرية القديمة التوحيدية منها والوثنية، وانطلق موسي (عليه السلام) من الوادي إلي سيناء، ثم عاد إلي مصر مرة أخري، وتمركزت اليهودية في فلسطين ومصر، ولاذت مريم بوليدها عيسي (عليه السلام) إلي مصر ثم عادت به إلي فلسطين، وتمركزت المسيحية في فلسطين ومصر معا. الفتح الإسلامي لمصر ثم ظهر الإسلام في أرض الحجاز، وجاء الفتح الإسلامي علي يد عمرو بن العاص لتكون مصر بعد ذلك مركزا إسلاميا هاما حتي تلك اللحظة، وخاصة مع وجود الأزهر منذ أكثر من ألف عام كأكبر جامعة إسلامية. وكانت مصر دائما طرفا في قصة التوحيد بفصولها الثلاثة، فمواطن الأديان التوحيدية في فلسطين وسيناء والحجاز ترسم فيما بينها مثلثا أو سهما رأسه يشكل مماسا لمصر في سيناء، فقد انصبت هذه الرسالات جميعا في مصر علي التوالي، فكانت مصر لموسي قاعدة ومنطلقا، ولعيسي ملجأ وملاذا، بينما كانت مع النبي محمد (صلي الله عليه وسلم) هدية ومودة - كما قال جمال حمدان في كتابه شخصية مصر. كأستاذ للتحليل النفسي: هل يعتبر المصريون أكثر تدينا في المنطقة العربية؟ - التدين من الناحية النفسية هو نزعة فطرية يصعب علي الإنسان أن يتجاهلها أو يعيش بغيرها، ويؤكد هذا الكلام استقراء تاريخ البشر في الحضارات المختلفة، وفي المجتمعات المتباينة، فقد تجد مجتمعا بشريا بلا مصانع أو مدارس أو علوم أو فنون أو فلسفات أو قصور أو زراعات، ولكن يصعب أن تجد مجتمعا إنسانيا بلا معابد أو كنائس أو مساجد أو رموز دينية! التدين عند المصريين فإذا كان التدين صفة إنسانية أصيلة مرتبطة بغريزة نسميها "غريزة التدين" قوامها البحث عن الله والتوجه نحوه بالعبادة والتضرغ والاحتماء به من صروف الدهر واستلهام الرشد والعون منه، إذا كان كل هذا موجودا في كل البشر، إلا أنه في الشخصية المصرية أكثر وضوحا وامتدادا وعمقا وتأثيرا، للدرجة التي جعلت مؤرخا كبيرا مثل "هيرودوت" يصف المصريين بأنهم "أكثر الشعوب تدينا"، وقد يكون ذلك راجعا إلي الطبيعة الزراعية التي ترمي "البذرة" وتنتظر نماءها بقوة الله وبفضله، أو يكون راجعا لكثرة وقدم الديانات علي أرض مصر كما ذكرت ودخول كثير من الأنبياء لها، فقد دخلها إبراهيم ويعقوب ويوسف وموسي وهارون وعيسي(عليهم السلام)، أو يكون راجعا لظروف وضغوط عاشها، ويعيشها الشعب المصري تدفعه للتطلع دائما نحو السماء بحثا عن الخلاص والعدل. الاهتمام بالحياة الآخرة وماذا تعني كثرة الرموز الدينية علي الآثار المصرية بشكل لافت للانتباه؟ - تعني إلحاح فكرة الدين والتدين علي الشخصية المصرية منذ القدم، ممثلا في كثرة المعابد في طول مصر وعرضها، وكثرة الرموز الدينية في كل الآثار المصرية بشكل ملفت للنظر، فلا تكاد تري أثرا مصريا قديما لا يحمل تلك النقوش أو الرموز والنصوص الدينية، وكان اهتمام المصريين بالحياة الآخرة يفوق اهتمامهم بالدنيا، ولذلك نري في آثارهم غلبة القبور والمعابد علي القصور والبيوت، وتراكمت الموروثات والعقائد الدينية (صحيحها وباطلها) في طبقات النفس لدي المصريين، وأصبحت من الأشياء شديدة الأهمية لديها والتأثير فيها، بحيث يندر أن تري سلوكا لدي المصريين إلا ووراءه مفهوم أو دافع ديني سواء كان ظاهرا أو قابعا في أعماق وعيه، ولهذا لا نستغرب حين نري المصري حتي وهو يقوم بأعمال منافية للدين يستخدم عبارات دينية، فاللص مثلا يمكن أن يقول: "يا مسهل" أو (يارب استر)، وهو يفتح خزانة ليسرقها! شيوع الألفاظ الدينية حتي المطربة تذكر بعضا من أسماء الله أو أسماء الرسول ، وهي تغني غناءً عاطفيا صارخا، والراقصة كذلك، والجالسون علي المقاهي يتعاطون المخدرات تجد لغتهم مشبعة بالعبارات والألفاظ الدينية، وإذا حدث شيء جلل تكتشف أن بداخل كل هؤلاء حمية دينية كبيرة! مقولة إن المصري عرف التوحيد قبل نزول الأديان السماوية.. صحيحة؟! - أستطيع القول بأن الشخصية المصرية مشبعة بالدين في مراحل نموها المختلفة عبر العصور، وقد دفع هذا بعض المؤرخين لأن يقولوا بأن الإنسان المصري قد عرف التوحيد قبل أن تتنزل به الأديان السماوية، وهذا القول قد يكون صحيحا إذا كان مقصده قبل الأديان السماوية الكبيرة وهي اليهودية، والمسيحية، والإسلام، أما إذا كان يقصد أن المصريين القدماء قد عرفوا التوحيد قبل الأديان السماوية عموما، وأنهم عرفوه بعقلهم المجرد واجتهادهم الشخصي فهذا قول باطل ليس عليه دليل! التوحيد دين آدم لأن التوحيد هو دين آدم أبي البشر، وأكثر أهل العلم علي أن آدم (عليه السلام) كان نبيا، وجاء بعده أنبياء كُثر، بعضهم معروف لنا، وبعضهم غير معروف، إذن فالتوحيد هو الأصل، أما الكفر والشرك فإنها أشياء عارضة، وانحرافات طارئة، كانت تصيب الناس ردحا من الزمان فيجيئهم نبي أو رسول يصحح معتقداتهم ويعيدهم إلي التوحيد الخالص مرة أخري! تأثير وجود الأضرحة ومحبة المصريين لآل البيت، رغم رفضهم التشيع؟ - لقد وجد الفاطميون في مصر أرضا خصبة لاستقبال المذهب الشيعي فنشروه بها لسنوات طويلة، إلي أن جاء صلاح الدين الأيوبي واجتث هذا المذهب من جذوره، وأعاد مصر إلي المذهب السني مرة أخري، وقد كان أحد المداخل الميسرة لتشيُّع المصريين محبتهم للرسول(صلي اللله عليه وسلم)، ومحبتهم لآل بيته الكرام (رضي الله عنهم)، فالمصريون ذوو عواطف جياشة، وهم غالبا مايستقبلون الدين علي المستوي العاطفي أكثر مما يستقبلونه علي المستوي العقلي. حس فني عالٍ لذلك نشر الفاطميون مذهبهم الشيعي في مصر لمئات السنين بناءً علي هذه الخصائص في الشخصية المصرية، والمصريون بجانب عواطفهم الجياشة ومحبتهم لآل البيت يتمتعون بحس فني عالٍ وخبرات روحية عميقة ومتعددة المستويات، وحاسة ذوق عالية بروحانيات وجمال وأسرار الدين، وكانت هذه الخصائص مدخلا هاما لدخول التصوف وتمدده وانتشاره في ربوع مصر، ففيها تجد أتباع كل المدارس الصوفية، وتجد مدافن عدد كبير من الأقطاب الصوفيين! سر ترحيب المصريين بالفتح الإسلامي وقواده؟ - القابلية العالية للتدين لدي المصريين ربما تفسر لنا ترحيب المصريين بالفتح الإسلامي ودخولهم في الإسلام بأعداد كبيرة، وقبولهم للغة العربية واندماجهم في الحضارة العربية ولعب دور مركزي فيها لقرون طويلة، وعلي الرغم من مقاومة المصريين العنيدة للغزاة من الهكسوس والإغريق والرومان والتتار والصليبيين والفرنسيين والإنجليز، إلا أنهم علي العكس تقبلوا الفتح الإسلامي بصدر مفتوح، وتقبلوا الحكام الوافدين من العرب والطولونيين والإخشيديين والأيوبيين والمماليك والعثمانيين، لا لشيء إلا لكونهم جاءوا ضمن منظومة إسلامية دينية، ولم يتمردوا عليهم إلا في أحوال قليلة حين كانت تتكشف لهم طبيعتهم الاستبدادية، وأهدافهم السياسية البعيدة عن الدين! الرجاء.. أم الخوف؟ علاقة المصري بالدين.. بهدف الرجاء أم الخوف من الإله؟ - علاقة المصري بالدين علاقة حساسة وغامضة، وأحيانا ملتبسة ومتناقضة، ولكنها علاقة مركزية ومحورية في أغلب الحالات، وهي علاقة طوعية خرجت من رحم الحب للإله، والمودة له، حيث رآه المصري مصدرا للنماء والدفء والرخاء، لذلك كان تصوُّر الموت إيجابيا لديه، فهو سيذهب إلي إله محبوب، ويحيا لديه حياة طيبة، لذلك نري القبور عامرة بالمقتنيات والنقوش والنصوص، فكأن الميت ذاهب إلي زيارة محبوب فأخذ معه ما لذ وطاب لكي ينعم في رحاب محبوبه بكل هذا حين يبعث بين يديه! وهذه العلاقة الودودة المختارة المحبة تختلف عن علاقات أخري بالإله في بيئات مختلفة تتسم بقسوة المناخ وصعوبة ظروف الحياة، حيث تميل العلاقة أكثر إلي الرهبة والفزع والخوف من الإله. إذن فعلاقة المصريين بالإله علاقة فيها رجاء أكثر من الخوف، وفيها ترغيب أكثر من الترهيب، ولهذا نجد المناسبات والطقوس الدينية تتحول لدي المصريين إلي احتفاليات مبهجة و"مبهرجة"، في غالب الأحيان، فهم قد حولوا رؤية هلال رمضان إلي احتفالية عظيمة، وكذلك إحياء ليالي رمضان بشكل يفوق مثيله في الشعوب الأخري، ونفس المناسبات في ذكري المولد النبوي الشريف، والإسراء والمعراج، والنصف من شعبان، وعاشوراء، ولكل ذكري من هذه الذكريات طقوس وطعوم خاصة تميزها، وقد يقول قائل بأن هذه الاحتفاليات إرث فاطمي جاء إلي مصر مع الفاطميين، وهذا صحيح .. ولكن الطبيعة المصرية احتضنت هذا الإرث لأنه وافق تركيبتها النفسية، وأضافت عليه من قريحتها التي اشتهرت قبل الفاطميين بعصور طويلة بمحبتها للاحتفاليات الدينية!