لا أعرف عدد المرات التي شاهدت فيها فيلم » غزل البنات » ، لكني أؤكد أن في كل مرة أشاهد فيها الفيلم أتفاعل معه وكأنني أراه لأول مرة. فيلم صنعه العبقري أنور وجدي وجمع فيه رموز الفن المصري الكبار وقتها فخلد الفيلم الذي كان آخر أعمال المضحك الكبير نجيب الريحاني. مؤخرا شاهدت الفيلم ووجدتني أتعايش وأتفاعل معه كأنني أري الريحاني لأول مرة وهو يبدع في مشهد دخوله قصر الباشا وتعامله مع كل الشخصيات علي أنهم الباشا بينما يتعامل مع الباشا علي أنه أحد العاملين بالقصر ، مشهد لا يستطيع ممثل آخر أن يبدعه مثلما أبدعه الريحاني. قصة الفيلم نفسها التي تدور حول التضحية الذاتية لصالح الحبيب قصة راقية لإنكار الذات وتذكروا أننا نتحدث بعد 67 عاما من ظهور الفيلم عام 1949. ونادرا ما يجمع فيلم مثلما جمع غزل البنات الذي ضم بجانب الريحاني ليلي مراد التي لن تتكرر وأنور وجدي بالطبع صانع الفيلم ومنتجه وجدنا معهم سليمان نجيب وعبد الوارث عسر ويوسف وهبي ومحمد عبد الوهاب ومحمود المليجي وفريد شوقي وزينات صدقي وفردوس محمد ، كل هذا العدد من كبار النجوم جعل الفيلم علي رأس الأفلام المصرية الاستعراضية والكوميدية. وبجانب الإتقان في صنع الأغاني والاستعراضات وحلاوة أداء ليلي مراد التي جعلت تلك الأغاني تعيش لزمن طويل ، هناك فخامة الديكور وإتقانه ، وأعتقد أن وجود خواجات في ذاك الزمن كان عنصرا جوهريا في وجود السينما المصرية أولا وفي إتقان الصنعة. لقد عرفت مصر السينما في أواخر القرن التاسع عشر عن طريق الأخوين لوميير اللذين اخترعا السينما في فرنسا فكانت مصر من المحطات الأولي التي حطت فيها السينما في مدينة الإسكندرية التي كانت تعتبر مدينة أوروبية بالمعني الثقافي والحضاري. عناصر الجمال والفن الراقي كانت في مصر وهو ما أصبح الآن » لبانة » يلوكها بعض مدعي الثقافة عن القوة الناعمة ، فتجدهم يظهرون في التليفزيون ويلوكون الكلام عن القوة الناعمة وهم لا يدركون ما القوة الناعمة ولا يعرفون بالتأكيد كيف يصنعونها - أهو كلام يتردد والسلام -. وقتها كانت مصر في مقدمة المنطقة بفنها وأدبها وصحفها ولا ننكر في هذا المجال الإسهام الكبير الذي قدمه الأشقاء الشاميون - لم تكن هناك سوريا ولبنان منفصلين -. كان للشوام أثر هائل في صنع القوة المصرية الناعمة فادخلوا المسرح والصحف - الأهرام نموذجا - وكانوا مع إخوانهم المصريين نجوم المسرح والسينما بجانب الفنيين من الخواجات الأرمن والجريك - اليونانيين - والطليان وغيرهم الذين قامت علي أكتافهم وأفكارهم القوة الناعمة المصرية. لو أعدنا تذكر مشاهد فيلم غزل البنات لشاهدنا مصر الجميلة. هذا لا يعني أن كل الدولة كانت بهذا الشكل الجميل ، بالطبع لا ، فقد كانت هناك الأحياء الفقيرة والحياة الفقيرة والحارات الفقيرة والبطالة وتدني الخدمات وغير ذلك ولكني أقتطف شريحة من المجتمع وأتمعن في دراستها من الناحية الأخلاقية ومن ناحية الحوار وسأجد أن الحوار حتي الصادر عن مجرمين أو منحرفين لا يتدني إلي عبارات مثل - نعم يا روح أمك - أو يا ابن......... -. كانت مصر جميلة ، لكن وجود الخواجات وقتها كان عنصرا مهما في صناعة ذلك الجمال. بعد 67 عاما من ظهور فيلم غزل البنات ، أقول شكرا لأنور وجدي - الشامي الأصل - وللريحاني - العراقي الأصل - ولليلي مراد - يهودية الديانة قبل إسلامها - ولسيتفان روستي - إيطالي الأصل - ولكل الذين صنعوا الفيلم الذي جعل أجيالنا تري بلادها بهذه الصورة الجميلة وتدرك أنها لم تكن طوال تاريخها بهذه الصورة المتردية. والملاحظة التي أعجبتني ، عودة صورة الملك فاروق واضحة في الفيلم بدلا من الشخبطة التي كانت عليها من قبل وإن كان هذا لا يعني أنني من أنصار عهده.