من الجرأة النادرة أن نجد فضاءً روائياً عربياً جميع أبطاله من المسيحيين، يغوص في عالمهم وإيمانهم ومخاوفهم وأحلامهم، وهذا ما نجده في رواية (يوليانا) للروائي العراقي نزار عبد الستار والتي صدرت مؤخرا ببيروت عن دار نوفل "هاشيت أنطوان". يهدي الروائي نصه "إلي الذين حملوا الصليب وخرجوا من الموصل في تموز 2014"، ومن يستطع الكلام عنهم سوي عراقي اكتوي بنار الحرب والفتن الطائفية لعقود في "بلد لا تعيش فيه المتعة، ولا يستطعم البهجة، ولا يستطيع العيش لفترة طويلة بلا حروب". أحب ججّو القديسة يوليانا، خادمة القديسة بربارة، فكان كل يوم يطبع قبلة علي رخامة قبرها مواساة وتعويضاً، لأنه وجد أن كل الاهتمام كان منصباً علي القديسة بربارة التي تجاور قبرها، حتي تراءت له يوليانا أخيراً لتشكره علي اهتمامه بها ولترعي من بعده ابنه حنا الذي يتعذب بعاهته المتوارثة وسوء حظه مع البشر. "الإيمان بالله وحده ليس كافياً، يجب أن نصنع الجمال، يجب أن يكون لدينا مايكل أنجلو وبيتهوفن، لا يسوع فقط". عبارة وردت علي لسان إحدي البطلات، تلخص فيها الفكرة الرئيسية للرواية التي تناقش عمق القضية الإيمانية من خلال ظهور القديسة يوليانا للعلن لتنجد النفوس التي سكنها وأنهكها الحزن وظنت أن الرحمة الإلهية غائبة . معني الإيمان الذي تتحدث عنه الرواية يختلف عن معني الإيمان الذي استقر في الوعي الجمعي، فالأول حقيقي، والثاني شكلي. الرواية تقول ببساطة إن الحب هو صلب وأساس الإيمان، الحب الصافي وغير المشروط، لا بمنحة ربانية ولا بهبة بشرية، إنه الإيمان من دون طمع في ملكوت الرب السماوي، أو في مال أو منصب دنيوي. أيضاً تقول إن العبادات الشكلية، من دون حب ورحمة في القلب لا تساوي شيئاً عند الله، المعني الكامل للمحبة. نلمس في رواية يوليانا التغيير السياسي والاجتماعي والاقتصادي للعراق من خلال حكاية ججّو بنيامين المولود عام 1929، ثم تُستَكمَل الحكاية مع ولده حنا، لتنتهي في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، وتحديداً في المرحلة الرئاسية لصدام حسين وحرب العراق وإيران، ووقت أن كان المسيحيون يغيرون أسماءهم خوفاً من بطش حزب البعث، كما حدث مع ميخائيل يوحنا، الذي تحول اسمه الي طارق عزيز وزير الخارجية الأشهر! حمل ججّو ومن بعده ابنه حنا لعنتي العقل الطفولي والتشوه الجسدي المتوارثتين في العائلة، فكان نصيب ججّو الذي "بقي يظن أن المرء بإمكانه صنع حياة بلا خطيئة"، والذي خدم بجل روحه في كنيسة القديسة بربارة، وكان يعظ الناس، أن سُميَّ القديس الأبله، لأن الناس رأوه كذلك، حكموا علي الظاهر منه وليس باطنه .. لم يروا قلبه، لكن كل ما رأوه أنه مهزلة وعارا علي البلدة والكنيسة، كذلك رفض كبير القساوسة تنصيبه شماساً، رغم اعترافه بأن ججّو معجزة إلهية، "لكن الناس يحتاجون إلي رجل محترم وعاقل ينقل إليهم كلام الله"! مع منتصف الستينيات، تطرأ التبدلات علي البلدة الزراعية المسيحية الهادئة "كرمليس"، بظهور "إسماعيل دنحا" مُمثلاً للإمبريالية الأمريكية، بافتتاحه فرعاً لشركة ساس الزراعية، بالإضافة إلي الرجل الثري (الوجيه بطرس)، وأخيراً نجد المهرب والمجرم (أبلحد بابكا) فيكوِّن الثلاثي النواة الأولي للتدخل الأمريكي الذي سيأتي دوره لاحقاً، يغيرون بما استحدثوه ليس فقط شكل البلدة، بل ساكنيها. تناقش الرواية، بجانب فكرتها العميقة عن الإيمان الحقيقي، عدة قضايا، منها إستغلال الدين للتكسب واعتباره نوعاً من الاستثمار، وربما أربحه! فبداية من الاستغلال الساذج وغير المقصود من ناحية روز أم ججّو والقس يوسف كوماني، نهاية بأراسيا التي تستغل ظهور يوليانا، فتجعل عائلتها صاحبة الملكية الإيمانية للقديسة يوليانا، وتقيم المشاريع الاستثمارية والسياحية بجوار قبرها. كما تتطرق الرواية إلي فكرة استسلام المتدين لوضعه البائس، ويتضح ذلك في الحوار الذي دار بين ججّو وشمونيا: - نحن الفقراء سعادة الأفاعي والعقارب. - وما سعادتنا نحن الفقراء؟ - سعادتنا برضا الرب عنا بعد أن نُسعِد الأفاعي والعقارب بلدغنا، وتسميمنا، وموتنا. والرواية بذلك تناقش بشكل غير مباشر ما تنتهجه السلطات القمعية باحتضانها للتيارات الدينية التي تعمق وتغذي استسلام الفقير لفقره، وعدم الثورة علي هذا الوضع، ما دامت في النهاية إرادة الله! من أهم الأفكار أيضا، هيمنة الدول الكبري وتدخلاتها في العراق والتي أدت بشكل مباشر لمزيج الحرب والفوضي اللذين نراهما الآن، حيث كانت البداية حرب العراق وإيران، حينما تم استدعاء مارد الصراعات المذهبية من مرقده ليكون أول مسمار يدق في نعش العراق، ففي الرواية نجد أوروبا تضغط علي العراق من أجل حماية المسيحيين، وكيف أنها مراوغة سياسية الفرض منها فرض شروط علي التسليح. تنتصر الرواية لإله الحب والرحمة، الذي يغفر ولا يُرهِب خَلقَه بسوء العاقبة، يقول مثلث الرحمة لججّو:" انقذ الناس بالرحمة، ولا تروعهم بالعقاب، الله منحنا الحرية كي يري أعمالنا، فلا تقيد الناس، واعمل علي توسيع قلبك". الرواية تدعو إلي التعايش السلمي وقبول الآخر أياً كانت سوءته، علَّة عقلية أو سلوك شخصي، وهي نظرة صوفية شديدة الإنسانية. تقول شمونيا: "ظهور القديسة لا يتعلق برسالة عامة توجه للمسيحيين، بل هي رسالة شخصية .. لقد ظهرت من أجل إنقاذ الحب". ويقول مثلث الرحمة: "لا معجزة للكون بلا بشر، ولا بشر بلا حب، الإيمان عشق". رعت ججّو في فترة من فترات حياته قوادة محترفة تدعي بتول بقلاوة، شملته بعطفها وأغدقت عليه من رحمتها، وكذلك فعلت بالمثل العاهرة ياسمين ياسين التي احتضنت ابنه حنا كأم حتي وهي طفلة مثله، ثم آوته في بيتها وهو شاب، أحبته بصدق كما أحبها. المرأتان في العرف المجتمعي منبوذتان محتقرتان، ودينياً مُدانتان، مندستان بالخطيئة، لكنهما أبديتا عطفا وحنانا وإنسانية ورحمة افتقدهم من تلتصق عيونهم بالسماء وقلوبهم بالفضيلة! وتأتي دلالات اسماء العاهرتين لتبرز التناقض بين الظاهر والباطن، فكانت سخرية وإنكاراً لواقع الأولي، وتوصيفاً للثانية. يصدم الروائي وعي المتلقي وعقله كثيراً، فيتوقف للتفكر في قضايا إيمانية وإنسانية عديدة، كانت بدايتها بشكر القديسة يوليانا لججّو علي قبلاته، ونهاية بانتقالها من مقبرتها بكنيسة القديسة بربارا لتعيش في بيت ياسمين وحنا .. حيث يوجد الحب، لنخلص إلي أن "العفة في صدق الحب، وليست في فعل الجسد". تحدث الظهورات النورانية في أوقات الشدة وضياع الحلم وسطوة اليأس، وأياً كانت حقيقتها، فهي حدث له قدسيته وجلاله، ومصدق ومبارك من القساوسة والرهبان، إلا أنهم في الرواية استنكروه ولم يصدقوه لأنه حدث في بيت عاهرة مسلمة، فإن تغاضوا عن الحقيقة الثانية، فكيف يتغاضون عن الأولي؟! لكنهم أيضاً أنكروه قبلاً حينما ظهرت يوليانا لأبيه ججّو، لأنه أبله، مع أنه مسيحيّ .. إذن المشكلة الحقيقة تكمن في نفوسهم المشوهة وبصيرتهم العمياء. تظهر يوليانا لتغير البعض للأفضل، وتعيد البعض الآخر لذاته الحقيقية التي مسختها شهوة الحياة. فتُحوِّل ياسمين لشبه قديسة، وتعيد مدام رينو الشرهة لروح شمونيا البريئة، وتمنح حنا بركاتها، فيشفَي من يأتي للتبرك بداره. لم تكن ياسمين لحنا مريمة المجدلية فقط، لكنها كانت ملاكه الحارس، والبركة الشافية التي أبرأته من عاهاته، فأصبح يمشي معتدلاً، بعد أن كان معاقاً، ثم تأتي يوليانا لتحل عقدة لسانه وعقله، فيتفوه بأحاديث الحكماء، بعد أن كان يُعَد من المجانين. يكمن الفارق بين ججّو وحنا، أن الثاني انغمس في الحياة البشرية التي علي الأرض، خَبُرَ وجع الإنسان، وحزن بحزنه، ولم يتقوقع علي نفسه، مضطرباً من الناس مثل أبيه، لنُجابه بفكرة أخري للرواية، وهي أن التجربة الشخصية، علي ما تحمله في رحمها من خطأ وخطيئة، تُثري وتبلور الشخصية الإنسانية، وبالتالي تصقل الإيمان وتعمقه، إنه نضج العقل وسِعته بالتجربة العملية، من دون الاعتماد فقط علي تجارب نظرية وقراءات أياً كانت قدسيتها. "الخطيئة رحم الخير، الخطيئة مفروضة علينا كي نخطو مجدداً الخطوة الأولي". تنتهي الرواية بخطاب مفوه من حنا للجمع الذي جاء لإعادة القديسة يوليانا إلي مكانها الأصلي، مخافة خسارة شفيعة كرمليس، فيعري زيفهم وجشعهم هم الذين يريدون إحلال الظلام في بيت إنسان يرونه غير جدير بها، رغم أن "النور للظلام" كما جاء علي لسان القديسة، يقول حنا:"لمستكم غير شافية، لأن طمعكم فيها، تقولون الكلام الحسن كي تجمعوا الحب لأنفسكم، تستغربون إذا ما تجلي نور العالم لرجل معاق أحب الله، وعبر عن حبه بطريقة ساذجة" وينهي قوله باعتذاره لهم عن فشله في إقناع القديسة بالعودة! نجح نزار عبد الستار في يوليانا بنسج رواية بديعة تدعو للحب، وهو جل ما نحتاج إليه في هذه الأيام.