المصريون لهم ذكريات ضاحكة غالباً، وساخرة أحياناً، مع الحملات القومية التي ترعاها الدولة وتمولها لترشيد السلوك. فتضيع الفلوس وتتوه الرسالة الإعلامية ويظل السلوك كما هو، وتبقي من الحملة أصوات الضحكات تتردد من بعيد. ضحكنا مع إعلان ست سنية التي كانت تترك المياه ترخ من الحنفية، ورغم مرور أكثر من أربعين سنة فمازالت الحنفية ترخ منها المياه حتي الآن. وسخرنا من حملة مكافحة البلهارسيا التي قدمها الفنان محمد رضا منذ عشرين سنة، وكانت تدعو الفلاحين أن يعطوا ظهورهم للترعة للوقاية من البلهارسيا، بينما نشاطهم الزراعي كله مرتبط بالترعة ومائها. لو اجتمعت كل شركات المحمول والحديد في مصر وقررت تمويل حملة ضخمة، تفسح لها الفضائيات شاشاتها وبرامجها في أوقات الذروة، لن تؤثر قيد أنملة في تغيير سلوك الفلاح المصري نحو ترشيد المياه. طالما سارت في نفس المسار القديم الذي ينظر للفلاح، علي أنه ساذج وأمي، لا يعرف مصلحته، ويسهل خداعه. والحقيقة التي يعرفها كل من اقترب من الفلاح المصري أنه شديد الذكاء، لكنه يخفيه خلف غلالة رقيقة من الدهاء يسمونه في الريف مكر الفلاحين، كما أن لديه وعياً كبيراً ورثه من آبائه وأجداده عن كيفية التعامل مع أجهزة الدولة التي يحمل عقله الباطن ذكريات غير سعيدة عنها. فهي إما جابية للضرائب منه أو ساعية لتوقيع العقوبات عليه. ولا ننسي أن هذا الفلاح أقصي أمنياته أن تبتعد عنه الأجهزة التنفيذية وتتركه في حاله. أو كما يقول المثل يا نحلة لا تقرصيني ولا عاوز عسل منك. إن الاكتفاء في الحملة الإعلامية بترديد أننا نواجه جفافاً أو كارثة مائية أو ثورة عطش أو ما شابه من تعبيرات، بدون تقديم بديل للمتلقي، هو وصفة مثالية لإثارة الفزع في الشارع، فهي مثل جملة تضم مبتدأ بغير خبر، والخبر يجب أن يتضمن فعلاً ملموساً نطلبه من الفلاح يعود بنتيجة إيجابية علي عملية التوفير المطلوبة. كما أن مخاطبة الضمير الوطني، والوازع القومي، والحس الأخلاقي، للمحافظة علي المياه هو عزف علي نغمة نشاز لن تدخل عقل الفلاح، الذي يمثل شريحة تسعي لتعظيم مكاسبها وتحقيق مصالحها مثل باقي شرائح المجتمع. ومن الظلم أن أطالبه هو فقط بمراعاة الصالح العام، خصوصاً وأنه من أكثر الشرائح تهميشاً في المجتمع المصري. فإذا أردنا حملة ناجحة لترشيد استهلاك المياه، فيجب أولاً أن نحترم الفلاح ونتعامل معه علي قدر ذكائه، نحترم رغبته في زيادة دخله لمواجهة لهيب الأسعار، ونحترم حقه في الحياة الكريمة، ومع احترام الرغبات تأتي حزمة الحوافز السلبية، التي تتضمن الإصرار علي تطبيق القانون علي كل من قام بزراعة الأرز خارج المساحة المقررة، لأن وجود احتمال للإفلات من العقوبة يتيح فرصة واسعة لارتكاب المخالفة. أما الحوافز الإيجابية التي يجب أن تشملها الحملة فتتضمن وضع سعر مجزٍ لقنطار القطن وكذلك للأذرة حتي يشكلا منافساً قوياً لمحصول الأرز. هي نظرية العصا والجزرة معاً، لا عصا بدون جزرة ولا جزرة بدون عصا. هذا هو مفتاح أي خطاب إعلامي يوجه للفلاح المصري. والتواصل المباشر مع المزارع هو أقوي وسيلة للإقناع وتغيير السلوك، تأثيره يفوق كل الحملات التليفزيونية والإذاعية والصحف. وهو ما يمكن أن يتم من خلال الجمعيات الزراعية ومهندسي الإرشاد الزراعي والتوجيه المائي، فالسوابق تقول إن أي خطاب إعلامي للفلاح بدون اشتراك وزارة الزراعة في توجيهه لن يحقق نجاحاً يذكر. كما أن التواصل مع الفلاح عن طريق فلاح آخر هو أقوي من أي تنويه تليفزيوني. وإذا كانت وزارتا الري والزراعة قد أعلنتا مراراً عن طريقة جديدة لزراعة الأرز علي مصاطب، والتي توفر كميات كبيرة من المياه، فإن السؤال الحيوي هو لماذا لم يقبل الفلاح علي تلك الطريقة حتي الآن؟، والإجابة يجب أن تأتي من فم الفلاح نفسه، لا نفترضها نحن ونضعها علي لسانه. وتظل الوسيلة الأكفأ هي إتاحة الفرصة للمزارعين، أو ممثلين لهم، لرؤية تلك التجارب بأعينهم بدلاً من القراءة عنها بالصحف أو سماع مميزاتها بالتليفزيون، حتي لا تظل تلك التجارب أسيرة المعامل والأوراق البحثية فقط. وهنا يأتي الدور الغائب لروابط مستخدمي المياه والتي أنفقت عليها الدولة الملايين، تدريباً وتكويناً ومعدات، ثم بدا دورها غائبا أو شاحباً علي أقل تقدير في توعية المزارعين بترشيد الاستهلاك. إن أفضل حملة إعلامية توجه للفلاح المصري يجب أن يصممها ويقدمها فلاح مثله. هذا هو المفتاح.