الحقيقة أنني عندما أفكر أن أكتب عن شيء ما أو شخص ما فإن أكثر ما أكرهه هو إتباع أسلوب نمطي يتبع القواعد والأسس المنطقية. فأكثر ما يغضبني هو أن أقرأ عن شخص ما فيبدأ الكلام بأنه ولد في ذلك المكان في ذلك الوقت. فهذا النوع من المعلومات يذكرني أكثر بالكتب المدرسية حيث يكون الغرض من معرفة المعلومة هو نسيانها بأسرع وقت ممكن. فمثلا عندما أتحدث عن شاعر خارج الحدود اعتاد أن يكسر القواعد. يجب أن أبدأ الحديث بمصادفة تاريخية خارج المألوف ومن النادر ان تتكرر. ففي عام 1922 وفي السكن الجامعي لأكاديمية الفنون الجميلة بمدريد اجتمع سلفادور دالي والشاعر جارسيا لوركا والمخرج أو الذي أصبح بعد ذلك مخرجا لويس بونويل. تلك المصادفة التي جمعت بينهم لتثري الفن والحياة الشخصية لثلاثتهم بعد ذلك. فيديريكو جارسيا لوركا الذي ولد في فوتيني فاكيروس بغرناطة سنة 1898 لأب مزارع ثري وأم معلمة ساهمت منذ البداية في تكوين شخصيته الإبداعية حيث اهتمت بتعليمه البيانو فزاده الإحساس بالموسيقي منذ الصغر برهافة الحس والخيال الجامح. أصيب لوركا بمرض خطير عقب ولادته منعه من الحركة حتي بلغ سن الرابعة. وكان ذلك سبباً في ولعه بالدمي وخلق شخصيات من خياله. حتي أنه اشتري مسرح عرائس بأول نقود أدخرها في حياته. لم يظهر لوركا أي نبوغ أثناء مراحله التعليمية الأولي بسبب خياله الجامح ولسانه الطلق في إلقاء الشعر الحر. ومنذ صغره اعتز لوركا كثيرا بأصله الأندلسي وعرقه العربي وقد ازدحمت قصائده بالكلمات العربية علي غرار أغنية وديوان وغيرهما. أصدر لوركا أول كتبه وهو في العشرين من عمره بعد رحلة جامعية جمعته بأصدقائه إلي قشتاله والأندلس وأطلق عليه اسم (انطباعات ومناظر) ليوثق فيه تلك الرحلة. عام 1920 تم عرض أولي مسرحياته تحت اسم (رقية الفراشة المشئومة) ولكنها لم تلق أي نجاح يذكر. كان ذلك قبل أن يدخل دالي في حياة لوركا او لوركا في حياة دالي. ففي عام 1922 تعرف لوركا بدالي لأول مرة. وقد كانت بداية دالي في أكاديمية الفنون بمدريد نموذجية فكان نشاطه يقتصر علي محاضرته وزيارة المتاحف والوقوف أمام اللوحات العالمية طوال الوقت ليعيد رسمها بشكل تكعيبي.بعد تعارفهما اندمج دالي أكثر بين طلاب الجامعة ومثقفيها ليتعرف علي لويس بونويل، ألكسندر دانييل ألبرت، وبابلو نيرودا. كان لوركا ولع خاص بالموت. وبموته هو علي وجه التحديد. يقول دالي في كتابه (يوميات عبقري)."كان لوركا يشير إلي موته خمس مرات في اليوم علي الأقل، وكان لا يستطيع الذهاب إلي النوم ليلا إلا إذا وضعته مجموعة منا في السرير. لا يعدم الوسيلة في أن يطيل الحديث عن الشعر الذي ينتهي، وغالبا بمناقشة الموت خاصة موته. كان يغني ويمثل بحركاته كل ما يتحدث عنه وبشكل خاص الحديث عن موته كان يقول: انظر. هكذا سأبدو حين أموت". الغريب أن لوركا تنبأ بموته في إحدي قصائده فقال: وعرفت أنني قتلت. وبحثوا عن جثتي في المقاهي والمدافن والكنائس فتحوا البراميل والخزائن سرقوا ثلاث جثثٍ ونزعوا أسنانها الذهبية ولكنهم لم يجدوني قط . وهذا ما حدث معه بالفعل حيث تم إعدامه رميا بالرصاص بتهمة كونه جمهوريا ومثلي الجنس، في الأيام الأولي من الحرب الأهلية الأسبانية عام1936 وبالفعل لم يستدل علي جثته بعدها. علاقته مع سلفادور دالي استمرت حتي بعد موته حيث ظل دالي يعاني لفترة من فكرة انه كان من الممكن أن يتدخل لإنقاذه. وفي كتابه (الحياة السرية لسلفادور دالي) اعترف دالي بالعلاقة التي دامت بينهما حتي 1927. بل انه كان يتباهي أحيانا ويتبجح بحب الشاعر له. وفي سابقة خاصة من نوعها أهدي لوركا كتابا كاملا إلي دالي بعنوان (أغاني إلي دالي) كما أفرد (دالي) صفحات في كتابه عن محاولات لوركا معه وعن رفضه في ان يتحول إلي مثلي الجنس. وكان لجالا زوجته دور كبير في إبعاده عن لوركا بعد ذلك. وعلي الرغم من ذلك فقد أثمرت علاقتهما في تلك الفترة عن مسرحية (ماريا نا بنيدا) 1927 التي كتبها لوركا وصمم دالي مشاهدها المسرحية وساهم في إنتاجها. ولاقت وقتها نجاحاً ساحقا لقصتها التي تروي عن فتاة اسمها ماريانا تم إعدامها في عهد الثورة. العام التالي شهد ظهور أكثر دواوين لوركا شهرة وهو (حكاية غجرية).. الذي لاقي نجاحا في كل البلاد الناطقة بالإسبانية. لم يكن لوركا مهتما بطباعة أعماله وكان لديه قناعة خاصة بأن الشعر بحاجة إلي كائن حي لينقله ويعبر عنه. فكان يلقي الشعر في كل مناسبة وفي أي وقت. سافر إلي الولاياتالمتحدة عام 1927 ليصدم هناك بحجم اختلاف الحضارة الأمريكية عن نظيرتها الأسبانية ليعود إلي موطنه من جديد ليصدر ديوانه (شاعر في نيويورك) الذي ألبسه ثوبا جديداً وأظهر الاختلافات التي طرأت علي شخصه. وبالرغم من أنه كان مقلاً بكتابته للمسرح. لكن ما كتبه من مسرحيات، مكنته من بلوغ سلم الشهرة وجعلته من أفضل كتاب المسرح بإسبانيا. ومن مسرحياته أيضاً، مسرحية »بيت برناردا ألبا«، التي نشرت وعرضت بعد وفاته، وهي مسرحية واقعية، عنيفة، كان قد كتب معظمها نثراً. ومع مرور الزمن أخذ لوركا بالتغير وتفهُّم الحياة أكثر، وأصبح ينظر إليها من منظار الحقيقة الحية :(في هذا الزمن المأساوي في العالم، يجب علي الفنان أن يُضحك ويُبكي جمهوره، ويجب أن يترك الزنبق الأبيض مغموراً حتي وسطه بالوحل وذلك لمساندة الذين يبحثون عنه). لوركا كان شاعراً كسر القواعد وتجاوز الحدود. وصورة الشعرية كانت تنطق بالبهاء. وأثناء القراءة له عليك أن تتأهب لرؤية الكثير من الفراشات وتنصت لأنفاس البحار وتأوه الأرواح وضحكات الأطفال وغناء الأمهات. فمن الصعب أن تقرأ له مرة لتتجاوزه بعد ذلك بل سترغب دوما في معرفة المزيد عنه.