لا أستطيع بالضبط أن أحدد متي كفت لوحات دالي عن إثارة خيالي وتأملاتي.. ذلك الطابع المثير لتجسيم الأحلام أو ربما الكوابيس.. يكفي أن تنظر إلي رسوماته لتصطدم برمز أو رمزين من رموز أحلامك الدائمه.. الكثير منها غير مفهوم ولكنه بالفعل يترك بداخلك الكثير من الانطباعات.. سلفادور دالي هو أحد أهم الفنانين السرياليين.. إن لم يكن أهمهم بالفعل.. والحقيقه أنني بالفعل قرأت بشكل متفرق عن الفن السريالي حتي وصلت إلي التعريف الذي وضعته في البداية للوحات دالي.. السريالية أو (فوق الواقعية) هي باختصار فن تجسيد الأحلام.. أو محاولة التعبير عن العقل بصورة يعوزها المنطق والعقلانية.. وقد اعتمد أغلب السرياليين علي مدرسة (فرويد) في التحليل النفسي.. وبعيدا عنها الآن فإن حديثي لن يكون عن (دالي) الذي يعرفه الجميع.. سأتحدث عن (سلفادور دالي) متعدد المواهب.. سأتحدث عن (سلفادور دالي) الكاتب.. فبخلاف أنه برع كنحات ومصمم ديكور و وجهات محلات ومسارح.. بل وأيضا عمل في تصميم المجوهرات والأزياء حتي أنه تشارك مع مصممة الأزياء الشهيرة (كوكو شانيل) في تصميم مجموعة اثواب نسائيه كانت حديث الساعة وقتها بعد أن تقابلا في باريس في منزلها سنة 1938 . أيضا كان لديه مشروع سينمائي مشترك لم يتم مع (والت ديزني).. ولا يمكننا إهمال ذكر فيلميه السينمائيين السرياليين بالتعاون مع المخرج (لويس بانويل) وهما ( كلب أندلسي) الذي تم إنتاجه سنة 1929 و(العصر الذهبي) سنة 1979 وكلاهما عبارة عن مجموعه من المشاهد المترابطه بغير تسلسل منطقي بمجموعة من رموز الأحلام التي تجعلهما أشبه بكابوس مصور.. وربما أشهر هذه المشاهد كان مشهد فقء العين بشفرة موسي في فيلم (كلب أندلسي) الذي لم يأت فيه أي إشارة لأي كلب ! بخلاف هذا كله ما جذب انتباهي فعلا إلي هذا العبقري متعدد المواهب.. الذي قال عن نفسه مرارا (الفرق الوحيد بيني وبين المجنون هو انني لست مجنونا!).. هو كتابه (يوميات عبقري) الذي يغطي عشر سنوات من حياته من 1953 إلي 1963 . فكما هو واضح من العنوان الذي اختاره لكتابه.. كان (سلفادور) يري نفسه عبقريا حقيقيا.. وكان يؤمن ان العبقرية صفة لا تتعلق فقط بموهبة الفرد وتفرده في مجاله.. بل إنها تغطي حياته كلها.. فالأنسان العبقري عبقري حتي في حياته اليومية.. في ملاحظاته الشخصية.. في تناوله لطعامه.. وفي اختياره لثيابه.. عبقري في كل شيء.. الكتاب مكتوب بأسلوب رشيق سلس وفكاهي إلي أبعد الحدود.. فلايمكن أبدا أن تكره (دالي) أو تغضب من جنونه وعجرفته وغروره بعد أن تقرأ هذا الكتاب.. وفيه برهن (دالي) ربما للمرة المليون.. أن الإنسان قادر علي أن يكون ما يريد أن يكونه.. وعبر بمشاعر أديب قادر علي نقل اللحظات بقلمه.. مثل أبرع الكتاب وربما فاقهم في هذا.. وعلي الرغم من أن الكتاب سيرة ذاتيه.. إلا أنه مقسم من الداخل وكأنه مجموعه من القصص.. وكما هي عادته في الكثير من المواقف أيضا فعل في كتابه وعبر في كل مناسبه ممكنه عن عشقه لزوجته (جالا).. وكيف اختار أن يكون وجهها هو وجه العذراء في لوحة صعود العذراء.. !! من المعروف طبعا أن لوحة (تداعي الذاكرة) تعد من أشهر لوحاته.. قال البعض أنه حاول فيها التعبير عن نسبية الزمن.. أما هو فقال عنها إنه استوحاها أثناء تناوله لقطعة من الجبن الذائبه.. علاقة (دالي) بالشاعر (فريدريكو جارسيا لوركا) مثيرة للجدل.. ولكن ما لا يمكن نكرانه ابدا أنه كان في قمة تألقه الفني والفكري في تلك الفترة قبل أن يسافر إلي باريس ويتحول من فنان ثائر إلي فنان بدرجة رجل أعمال يجيد تطويع كل مواهبه للحصول علي المال.. (لوركا) الشاعر كان بطل لوحة (سلفادور) (قليل من الرماد) بل هو من اختار اسم تلك اللوحه.. وإليه كتب (لوركا).. "تذكرني وأنت علي الشاطيء..وفوق كل شيء تذكرني وأنت ترسم شذراتك وقليلا من الرماد..آه يا رمادي القليل..فقط ضع اسمي علي لوحتك ليصبح اسمي قادرا علي فعل شيء ما للعالم".. قصة (دالي) تكاد أن تكون أسطوريه.. وعندما تقرأ عنه يصعب أن تتخيل أن هذا الشخص بكل نواقضه وجنونه ومشاعره كان متواجدا بالفعل في عالمنا.. والأقرب ألي التصديق أنه أحد أبطال دراما شكسبير بكل تعقيداتهم ومحوريتهم حول الخير والشر.