الوجوه.. تبقي الأدوار.. يرحل الناس.. تبقي الأشياء.. يذهب البشر.. تخلد الحكايات والكلمات.. يفني الزمان.. يظل المكان.. الأفراح.. الأحزان.. الشقاء.. النشوة المنعشة تتلاشي يتلقفها العدم تبعث من جديد بفعل الحنين الكامن.. والإرادة المبهجة وسحر التدوين المبدع، وتحت قبة الوجود.. العقيدة.. السياسة.. الجنس والإبداع يسعي البشر، يتصارع الإنسان في أتون هذا اليم المتلاطم يترنح بين الحياة والموت.. النصر والهزيمة.. الفضيلة والدنس، تلك هي معانٍ من »أفراح القبة»، هذه الرواية الفذة لنجيب محفوظ، وقد تبدو تنويعة فريدة ومدهشة خارج سياق عالمه حيث حاول فك شفرة العديد من الطلاسم، وقد تكون من أعمق إبداعاته، تصدي للزمن بطريقة مغايرة، متمردة فتوحد واقترن مع الزمن المحسوس والمعاش في الواقع، ليس علي طريقة مارسيل بروست، بل هي نقلات زمنية مباغتة من (الفلاش باك) أحيانا والخروج من الماضي إلي الحاضر والعكس دون قيود في محاكاة للزمن الواقعي ليصبح الزمان أقرب إلي الدوامة أو دوائر تتناوب عليها الشخصيات، ثم جاء المخرج محمد ياسين بموهبته الطاغية ليحول هذا النص المرصع بالسحر والغموض إلي مسلسل رمضاني أبهرني في البداية فتابعته محلقة في أجواء مغايرة محملة بروعة كل هذا الجمال لأهبط فيما بعد لمتابعة مايدور علي الأرض ولم أكن أدري أن العمل ذاته سيهبط منسلخا عن دنيا نجيب محفوظ. لماذا لايدوم الكمال؟ لماذا يهبط مسلسل من علياء المجد واكتمال كل العناصر الفنية من ديكور، تصوير، موسيقي، تتر، تمثيل وإخراج إلي الفخ الفج المسمي إثارة!! فبعد حوالي 12 حلقة كان التحول العنيف أو (الميتامورفوز) ومن ثم الهجر البين للنص المحفوظي لتتحول الحلقات إلي عمل يستجدي الإثارة المباشرة، الهابطة غير المنتمية إلي نسيج الرواية، وسيقول البعض إن التتر حرص علي ذكر »عن أفراح القبة»، ولكن هذا لا يبرر شعور المشاهد بالخروج من الدنيا المحفوظية للانزلاق إلي عالم (الحوض المرصود)!! وتشويه الراقصة امتثال من قبل البلطجي الشهير ذات يوم فنجد أنفسنا أمام مهرجان ماء النار وعاهرات برخصة!! والتشويه بالنار لكل شخصيات العمل »كرنقال» يعني!! ثم الشذوذ بين الرجال!! والاستمناء في الفراندا!! وكلها شخصيات مختلقة، محشورة، مدسوسة منزوعة الضرورة الفنية فهي لدواعي الغواية والإثارة الملفقة، لا أستطيع أن أمنع نفسي من أن أقول خسارة كل هذا الجهد الشاهق. إن عالم نجيب محفوظ مكتظ بكل أنواع البشر فعرفنا أشهر انتهازي وقواد عدمي في تاريخ الرواية العربية محجوب عبدالدايم صاحب أشهر شعار (طظ)، بعد إذن الجماعة الإرهابية الشهيرة ب»طظ في مصر»! ويموج عالمه ب»ريري» بنت الليل وأزقة الإسكندرية المعتمة المشبعة بالرطوبة والرغبة في (السمان والخريف) ثم نور المومس الفاضلة في (اللص والكلاب) والقاتل الدموي صابر الرحيمي في (الطريق) عرفنا البلطجية، الفتوات، النخاسين، اللصوص والكلاب، من اختاروا العدم، الخدر والهزيمة في (ثرثرة فوق النيل) ولكن كل شيء سطره محفوظ كان بشكل شديد الرقي، قصي عن الابتذال والرخص لدواعٍ فنية بحتة فلا مجال للاستجداء، وذات يوم سألته في حوار من حواراتي معه حيث تجاوزت الأربعين حوارا عن المضمون الأخلاقي في أدبه والإثارة فقال لي إنه يتجنب الإثارة ليس بدافع أخلاقي ولكنه يكره الاستسهال. وعندما يستسهل مخرج بقامة محمد ياسين فيقدم مجموعة مشاهد وشخصيات أقرب إلي البورنو لا إلي الإيروتيكية أي الشاعرية في الجنس والألفاظ القبيحة فنجد سوسن بدر تلقن رانيا يوسف درسا في توظيف أجزاء من جسدها بالقطعة مقابل المال علي السلم لعابري السبيل، ونجد سيد رجب هذا النجم المرصع بألق الوهج أو (جلامور) يزين أي عمل لكن مشهد الشذوذ غير المنتمي للرواية لمجرد الإثارة غير مقبول في حالة محمد ياسين، مثل المرأة الجميلة عندما تتعري تفقد من رونقها، فملاحتها تعفيها من الاستجداء. في مسلسل (موجة حارة) الرائع حافظ محمد ياسين علي جرعة اشتعال الحواس بمهارة فائقة، أما إعادة تدوير أفراح القبة وتحويل نجيب محفوظ إلي سلعة و( recy clage ) هو أمر محزن. كان الأديب العظيم دائم القول أن المخرج حر في العمل ولكن من المؤكد أن نجيب محفوظ لو شاهد ما يحدث كان ليحزن كثيرا، أنا أيضا حزينة علي إهدار الموهبة وتلك السيمفونية العذبة، المتجلية، فموسيقي هشام نزيه تحلق بك في ثنايا رهبة الوجود، رهبة أبدية الفن، العشق، والسعي للولوج لطلاسم العوالم الميتافيزيقية، الزمن وسره الدفين، التصوير عبدالسلام موسي وهذا الضوء المسكوب المتماهي مع الأحمر القاني، القاتم والمضيء بلون الرغبة والحلم، الضوء المستأنس، المروض يتسلل في العصر موعد الاستعداد لأفراح المساء، أوان المتعة.. يختلط باللون والظل خافت ومتوهج، فاضح وفادح في آنٍ، الديكور والتتر، محمود حمدي، محمد عطية، شيماء مجدي، التتر يرتد بي إلي عوالم قصية، عصية، مراودة تعبث بالخيال تدنو من فريدا كاهلو، دالي، ماجريت وبيوت الهوي ل تولوز لوتريك حيث الأباجورات ذات الحمرة المثيرة، الوردية، الأثواب الموحية، أدوات التبرج النسائية، (بانيو) فريدا كاهلو، الآلة الكاتبة، بقايا الشاي، والكؤوس شبه الفارغة تشي بأنه كانت هناك حياة وصخب، الأشياء باقية.. تتلو غياب الأشخاص، زينة النساء وتلك الأجواء المسحورة للمسرح تهتك سر الذكريات جمال إسماعيل، سرحان الهلالي، (مجنون نساء لكن لا يحب)، أداء مبهر.. إياد نصار.. طارق رمضان البطل الضد أو اللا بطل يعبر عن الإخفاق والعجز الوجودي المؤطر، معاناة الإنسان المزمنة ممثل مدهش في تلونه أشبه بقطعة النشاف متأهبة دوما لامتصاص واحتواء الدور، عباس كرم آه من قسوة المثاليين، يقول محفوظ في أفراح القبة »لا يحيا حياة ميسورة إلا المنحرفون»،» لم نسجن في بلد تستحق غالبيته السجن، قانون مجنون لايدري كيف يحترم نفسه، ماذا سيفعل كل هؤلاء الصبية، انتظر حتي تشهد هذه البيوت القديمة وهي تنفجر. التاريخ يحزن لتحوله إلي قمامة، هذا المسرح يشهد عذابي وحبي، شهد أيضا اغتصابي ولم يمد لي يدا، تحت قبته العالية تدوي شعارات الخير في أعذب بيان وتسفح علي مقاعده الوثيرة الدماء وأنا ضائعة.. ضائعة محتقنة بسري».. هكذا تنتحب حليمة ضحية سرحان الهلالي.. »البوفية الأحمر باق كما كان، يضحك من تغير رواده.. سمع الكثير مما يقال ولايصدق أحدا». »حليمة.. ما أسعد من لايضيع خفقان قلبه في العدم! آهٍ لو أن الرجوع في الزمان ممكن مثل الرجوع في المكان»، هاهو طارق رمضان البرمجي البطل الضد، المؤمن بالقومية الجنسية: ذبيح الكرامة، مهين الفحولة مضغوط القلب، مهجور الأمل يشتعل قلبه من جديد بعد أن ظن أن الروتين قد أخمده، كنت أتوهم أن تحية ملكي مثل الحذاء المطيع، كنت أنهرها، أهينها وأضربها فلما تلاشت بحركة مباغتة ماكرة قاسية تلاشي معها الأمن، الثقة والسيادة وحل الجنون، وبزغ الحب من ركن مظلم غامض في الأعماق ينفض عن ذاته سبات البيات الشتوي ليبحث عن غذائه المفتقد. أفراح القبة أم تراها أحزان القبة، فالكل يسعي في دوامة الانكسار والهزيمة المسكرة. أم هاني زوجة طارق رمضان مهزومة في حبها، الكل يعاني من هزيمة وجودية، هزيمة وطنية 67، هزيمة عاطفية وهزائم فنية وأنا أيضا وقعت صريعة هزيمة مشاهدة انبهرت ببداية عمل لكتيبة إبداعية مبهرة هبط من عليائه ليلبي إغواء الهوي لأسباب متعددة والجزء الثاني من العلمل لايليق إلصاقه بمن يتربع فوق ربوة الإبداع الأبدي، نجيب محفوظ كم افتقده تعزيني خاتمة أفراح القبة: »مايهم في هذه اللحظة إلا الإمعان في السير ليكن من شأنها مايكون ولتكن العاقبة ما تكون ذروة النشوة تتألق علي جسد عراة الإفلاس والجفاف ولكن تنطلق إرادته بالبهجة المتحدية». تغيب