رغم أن علم السياسة واحد إلا أن الساسة متعددون ومتنوعون ومختلفون. أو هم مذاهب شتي.. فهناك السياسي المباشر ويقابله السياسي المراوغ أو الملاوع.. وهناك السياسي الصادق ويقابله السياسي الكذوب.. وهناك السياسي الأخلاقي والمبدئي ويقابله السياسي الميكافيللي.. وهناك السياسي الثابت المواقف ويقابله السياسي المتنقل بين المواقف المتناقضة.. وهناك السياسي المستقيم ويقابله السياسي الذي يلعب بالبيضة والحجر! وأيضا هناك السياسي الذي يحترم الرأي العام ويعمل له ألف حساب. وفي المقابل هناك السياسي الذي لا يهمه الرأي العام ولا يكترث بما يقوله ويستهين بتحذيراته. ويمضي في سبيله لتحقيق ما يراه ويعتقد بصحته وسلامته دون مراعاة لنقد أو تحفظ أو حتي رفض عام لما يقوم به. فليس كل السياسيين يحترمون الرأي العام أو يهتمون به أو يراعون ما يقوله. ويضعون ذلك في أولوياتهم .. فهناك سياسيون لا يعترفون حتي بالرأي العام. ويعتقدون انهم ماداموا قادرين ويمسكون بأدوات القوة في أيديهم يستطيعون المضي في تنفيذ سياساتهم وأفكارهم. لأنهم يعتقدون أن كل ما سوف يحدث هو قدر من الضجة والضجيج والصخب الاعلامي. سرعان ما سوف يتراجع شيئا فشيئا حتي يتلاشي تماما. السياسيون الذين يحترمون الرأي العام يبذلون جهدهم قبل أن يخطون خطوة إلي الأمام أو حتي إلي الخلف لاستطلاع ما يفكر فيه الناس. وما يهتمون به وما يقلقهم. وما يتطلعون إليه ويصبون إلي تحقيقه.. ولعل ذلك سبب انتشار عمليات استطلاع الرأي في شتي أنحاء العالم. سواء في البلاد المتفدمة أو البلاد الأقل تقدماً. في البلاد الديمقراطية وأيضا غير الديمقراطية.. كما لعل ذلك أيضا سبب لجوء عدد من الساسة للمطالبة بما يسمي بالحوار المجتمعي حول عدد من القضايا الرئيسية التي تهم أبناء هذا المجتمع ويحتاج الأمر لاتخاذ قرار أو موقف بشأنها. وحتي قبل أن تظهر استطلاعات الرأي والحوارات المجتمعية كمصطلحات شائعة في عالم السياسيين. فإن البعض منهم كان يلجأ إلي ما كان ومازال يسمي بالونات الاختبار.. أي يقوم بتسريب خبر عما يعتزم القيام به ويرصد ردود الأفعال عليه سواء من عموم الناس. أو من المنافسين. أو حتي الخصوم. بل ورد الفعل الخارجي عليه أيضا.. وإن كان ذلك لم يمنع لجوء بعض السياسيين إلي القرارات المفاجئة. ولعل أخطر وأهم القرارات المفاجئة في العصر الحديث هو قرار تأميم شركة قناة السويس.. بينما كان أهم القرارات التي سبقتها بالونات اختبار هو قرار غزو العراق ومن قبله قرار غزو أفغانستان. لكن علي الجانب الآخر هناك سياسيون يرون في الرأي العام ظاهرة مصطنعة .. أو بالأصح ظاهرة يمكن تشكيلها والتحكم في مسارها واتجاهاتها ومواقفها من خلال أدوات التأثير عليها وأغلبها بالطبع أدوات اعلامية.. وبالتالي هم يعتقدون أن هناك فقط مجموعات ضغط أو مجموعات تجيد التعامل اعلاميا لا تمثل الرأي العام. وإنما تمثل نفسها فقط. وإن كانت تساهم بدور في تحريض الرأي العام وتعكير مزاجه. وترتيبا علي ذلك يري هؤلاء السياسيون أنهم قادرون علي تحقيق وتنفيذ ما يريدون أو ما يعتقدون في صحته حتي وإن كان ينازعهم آخرون في ذلك. بدون الاهتمام كثيرا بالضجيج الذي يمكن أن يثار أو بالأصح يثيره الخصوم والمنافسون والمناوئون لهم.. فهم يعتقدون أن هذا الضجيج لن يستمر طويلا. وسوف يأتي وقت عليه لينتهي.. ولذلك هم تعودوا علي حدوث هذا الضجيج وعلي الانتقادات باعتبارها أمورا طبيعية وعادية وباتت مألوفة. لا ينبغي أن تدعهم يراجعون أنفسهم أو يفكرون في تعديل أفكارهم أو تنقيحها.. وحتي إذا تعذر عليهم تنفيذها حاليا لارتفاع موج الاعتراضات. فإنهم يؤجلون فقط التنفيذ منتظرين تحين فرصة مواتية لتنفيذ هذه الأفكار والآراء. لكن.. ربما كان ذلك ممكنا فيما قبل. إلا أنه الآن صار صعبا.. بل صعبا جدا.. فالرأي العام في كل مكان من العالم في ظل الانتفاضة الاعلامية الواسعة التي غطته وشملت كل أرجائه لم يعد من السهل تجاهله أو تجاوزه أو حتي خداعه والضحك عليه. فكل شيء صار الآن علي المكشوف ويجري علنا.. حتي الأسرار التي كان يتم الاحتفاظ بها وجدنا من يكشفها ويفضحها وعلي نطاق واسع.. والرأي العام ينصت ويسمع ويشاهد ويتابع بكل دقة. وبات يعرف الكثير والكثير جدا.. بل أصبح أكثر جرأة في المطالبة بما يريد عن ذي قبل.. حتي إذا سكت مرة أو مرتين أو ثلاث. فإنه ينبري ليعبر عن نفسه فيما بعد.. لذلك لم يعد ممكنا تجاهله أو عدم الاكتراث به.