اختلفت الأحزاب في تفسير الاجراء الأول من نوعه الذي قام به الحزب الوطني في ترشيحات مجلس الشعب الأخيرة عندما سمح بترشيح أكثر من عضو في الحزب عن نفس الدائرة بحيث ينافس الحزب الوطني نفسه في الدائرة بمرشحين أو ثلاثة أحيانا. ولندع ما قالته الأحزاب في أسباب هذا الإجراء. وأهم الأسباب في رأي الأحزاب ان الحزب الوطني لم يستطع أن يختار مرشحا بالذات في بعض الدوائر وكل المتقدمين للمجمع الانتخابي من أعضاء الحزب فهو لا يستطيع أن يميز أحدهم عن الآخر. ولكن.. ما يجب أن نتوقف عنده هو النتيجة.. ترك الحزب الوطني لأهالي الدائرة. أو بعبارة أخري ترك لناخبي الدائرة أن يختاروا من بين المرشحين نائبهم المفضل. باختصار.. أعاد الحزب الوطني للناخبين في عدد كبير من الدوائر حقهم في اختيار نائبهم بدلا من أن تفرض عليهم قيادة الحزب هذا النائب. والأصل في العملية الديمقراطية أن يختار أهل الدائرة نائبهم سواء كان من الحزب الوطني الحاكم أو المستقلين أو المعارضة. وفي مصر بالذات لا تطبق هذه القاعدة بل ان قيادات الأحزاب كلها بغير استثناء هي التي تختار المرشحين في كل الدوائر. وبعضهم لا يعرفه أهل الدائرة. أي الناخبين. وهو -المرشح- لا يعرف الدائرة ولا ناخبيه. وربما لا يزور الدائرة إلا في أثناء الانتخابات فحسب. ولنظرة إلي ما يحدث في الخارج .. في كل دائرة انتخابية توجد مكاتب لكل الأحزاب. وكل مكتب يرشح نائبا عنه في الدائرة. والأهالي يختارون هؤلاء المرشحين. وتجري الانتخابات فيفوز مرشح واحد عن الدائرة. وعادة يكون هناك اتجاه بين الشعب لاختيار حزب معين ليتولي رئاسة الوزراء. وفي هذه الحالة يفوز النائب الذي رشحه مكتب الحزب. معني هذا أن الحزب ومرشحيه هم الذين يفوزون بمقاعد البرلمان. والنتيجة كما يري البعض أنه ليس لمرشح المكتب في الدائرة أي دور في النجاح. فالحزب هو الذي صنع نجاحه. وهذا غير صحيح. المرشح الذي خدم أهل الدائرة. واشتهر بما يقدمه لهم .واشتهر أيضا بدوره في البرلمانات السابقة. وما قاله وما اقترحه من قوانين.. يكون لهذا كله أثره في الاختيار. فالمرشح هنا يشتهر بأنه نائب الدائرة في كل العصور ومهما اختلف الحزب الحاكم. رأينا ذلك مثلا في ركفلر عضو مجلس الشيوخ الأمريكي الذي حفظ الدائرة لنفسه ولحزبه بصفة دائمة. ورأينا ذلك في مصر في عهد سعد زغلول عندما رشح في دائرتين في القاهرة في وقت واحد في الجمعية التشريعية السابقة علي البرلمان ففاز في الدائرتين معا وذلك قبل نشأة الوفد قبل الحرب العالمية الأولي. فالنائب الناجح يساعد حزبه علي الاحتفاظ بالدائرة لنفسه وللحزب. ومن هنا تجيء أهمية مكتب الحزب في كل دائرة. * * * وبعد فهذه هي الخطوة الأولي للعودة إلي النظام الطبيعي للانتخابات .. أهل الدائرة هم الذين يختارون نائبهم.. وقيادة الحزب. أي حزب. لا تستطيع أن تفرض علي الناخبين نائبهم. وعندما يختار الشعب نوابه فإن هؤلاء النواب يحملون إلي القاهرة مطالبهم وأمانيهم. وعندما يتحقق ذلك ينمو الصعيد فعلا لأن نواب الصعيد أدري بمشاكلهم من قيادات القاهرة. وإذا بدأ الحزب الوطني بهذا التقليد الجديد فإن باقي الأحزاب ستتبعه وستختفي المركزية الضاغطة في مصر في هذه الحالة. وستختفي في هذه الحالة ظاهرة اختيار الوزراء للدوائر التي يرشحون أنفسهم فيها. ولن يختار الوزير دائرته الانتخابية التي يريد أن يمثلها في مجلس الشعب وهو لا يعرف عنها إلا اسمها. وقد يكون مر بها مرور الكرام فترة من حياته. يحدث في الخارج أن يقرر وزير الانسحاب من الحياة السياسية وعدم ترشيح نفسه في البرلمان فلا يستطيع رئيس الوزراء أن يفرض وزيرا آخر علي دائرة الوزير المستقيل المنسحب بل يختار أهل الدائرة مرشحهم الجديد. بل يحدث ذلك أيضا في دائرة رئيس الوزراء نفسه. ومعني هذا كله أننا في الانتخابات القادمة عام 2015 لن نجد المرشحين المتلهفين علي دخول مجلس الشعب ينتظرون قوائم مرشحي الحزب الوطني أو حزب الوفد أو غيرهما من الأحزاب وسنجد النائب يبدأ عمله السياسي لا في القاهرة بل في دائرته الانتخابية يحاول أن يجعل الدائرة تتجمل معه وهو يتجمل معها وبها. وستنتهي في مصر تلك المركزية الحاكمة الضاغطة.. وستكون مهمة قيادات الأحزاب التنسيق بين المرشحين في الدوائر والتنسيق بين الفئات والعمال والفلاحين. وستتغير خريطة مجلس الشعب كله. ولن نجد نوابا صامتين طوال دورة المجلس كلها.. خمس سنوات.. لأنهم لا يعرفون شيئا في دوائرهم ومشاكلها وأماني أهلها. * * * وأيا ما تكون أسباب قرار الحزب الوطني في اختيار أكثر من نائب عن الحزب في الترشيح في دائرة واحدة . فإن النتيجة -في رأيي- هي العودة للشعب ليختار نائبه. ولن يضطر الحزب الوطني لاختيار أكثر من نائب في الدائرة لأن دور الحزب سيكون قاصرا علي التصديق علي قرار أهل الدائرة. وسيكون معروفا مقدما اسم النائب لأنه يكون قد حفر اسمه علي جدار كل بيت من الدائرة. وهذه هي ديمقراطية الشعب لا ديمقراطية القاهرة.