حكم أحد الملوك علي نجار بالموت. فتسرب الخبر إليه فلم يستطع النوم ليلتها: فقالت له زوجته: أيها النجار نم مثل كل ليلة فالرب واحد والأبواب كثيرة.. نزلت الكلمات علي قلب النجار بالسكينة.. فنام ولم يفق إلا علي صوت قرع الجنود علي بابه.. ارتعدت فرائصه.. وسحب وجهه.. ونظر إلي زوجته نظرة يائسة وكأنه يودعها إلي الأبد.. امتدت يداه المرتجفتان إلي الباب ليفتحه.. ومد يديه إلي الجنود كي يتم تقييده وسحبه إلي مصيره.. فقال له الجنود: أيها النجار لقد مات الملك ونريد أن تصنع له "تابوتاً".. أشرق وجه النجار.. ونظر مبتسماً إلي زوجته.. فقالت له أيها النجار نم ككل ليلة فالرب واحد والأبواب كثيرة. *** إن العبد يرهق نفسه في التفكير ويرتدي ثوب الهموم فيجافيه النوم.. وينسي علام الغيوب.. يغرق في بحر التفكير.. والرب تبارك وتعالي يملك التدبير.. من اعتز بمنصبه فليتذكر فرعون.. ومن اعتز بماله فليتذكر قارون.. ومن اعتز بنسبه فليتذكر أبا لهب.. إنما العزة والملك لله وحده سبحانه وتعالي. *** ومن رحمة الله بعباده أن جعل الرزق والأجل بيده وحده.. فمنذ أن تدب الروح في الجنين يكفل الله له رزقه ويحدد أجله.. ولو اجتمع أهل الأرض من إنس وجان علي إضرار بشر ما استطاعوا.. إلا بما كتب الله علي عبده.. ولو اتفقوا جميعاً علي نفع بشر.. أيضاً ما فلحوا إلا بما كتبه الله علي العبد.. وإذا جاء الأجل.. ما استطاع أهل الأرض والسموات أن يؤخروا أو يعجلوا لحظة واحدة.. وعندما سئل الإمام الشافعي عن سر هدوئه وطمأنيته.. قال: علمت أن رزقي لن يأخذه غيري.. فاطمأن قلبي.. ولو صبر الإنسان لجاء الرزق يطلبه فالرزق في اللوح مكتوب مع الأجل.. البشر يتصارعون بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة.. ولو ملك أحدهم ناصية علي أخيه لقطع عنه رزقه وقصر أجله.. ولو ملك أحد أمر أخيه.. لأذاقه من الذل والهوان ما لا يطيقه بشر.. إنها النفس البشرية الضعيفة الأمارة بالسوء.. إنها النفوس المريضة التي يعمي بصرها الزيف والإفك و البهتان.. إنها النفوس الطماعة.. التي يعمي نهم المال والتكويش بصيرتها فلا يري من حوله إلا ما يجمع ويكنز.. وينسي أن الأنفاس معدودة.. والأرزاق مكفولة.. والله حي لا يموت. *** في سوق الحياة.. أمور عجيبة.. قلوب تباع وعقول تشتري.. الصدق سلعة توارت خلف البتارين.. والكذب تزينه الأضواء.. وفراشات البشر تتهافت عليه.. ويطوقون به أعناقهم في دنيا الإفك.. والضمير نحروه من الطابق العاشر.. والإخلاص علقوه في مشانق الزيف. في سوق الحياة أقنعة زائفة.. بعدد البشر.. وألوان الناس فاقت ألوان الطيف.. فهناك من يتلون كالحرباء حسب الموقف.. والمصلحة.. وتسقط أقنعة كثيرة.. لكن أصحابها لا يسقطون.. يستمرون في تبديل الأقنعة.. يرفعون شعارات.. ويسيرون بين الناس بالزيف والبهتان.. يأخذونك بالأحضان.. بينما الخناجر تطعن في الظهور.. يلقونك بابتسامة عريضة.. بينما السهام تصوب إلي الصدور.