نرتبط كثيراً بأكلاتنا الشعبية.. نسعد بتناولها.. نعتبرها اختباراً ومعياراً لإجادة الطبيخ وتعمير البيوت.. تتذكرها الأسر والأفراد في مناسباتهم.. يصرون علي إحضار أصناف منها للمنزل.. أو الذهاب برابطة المعلم إلي المطعم. أو المكان الذي يقدمه.. ومازال لمحلات المأكولات الشعبية مكانة في الأسواق والبيوت.. كما أنها تظل جزءاً من العلاج الناجع لمرض الحنين للوطن في الغربة.. ويسعد أي مصري بالخارج.. بأكلة شعبية طبختها ست الحبايب. تصل إليه في غربته.. وتصبح مأدبة ومناسبة للفرح للمجتمع الصغير.. في أديمها رائحة الوطن.. وشكلها قطعة من أرضه.. وحكاية تتجدد.. ورابطة تقود.. ونلاحظها في الحفاوة الخاصة.. والسعي إلي درجة الاكتشاف لمجتمع المصريين.. ولمست ذلك بنفسي عندما اكتشفت إحدي العائلات توفر الفول بأسواق المدينة.. واستقبلنا بحماس القدرة الصغيرة.. الابتكار المصري الصميم لتدميس الفول علي الموقد الصغير.. وفي شهر واحد.. كانت كل التجمعات المصرية قد وصلها الخبر. وجربت التدميس بنجاح. الأمر لا يتعلق بالفول المدمس فقط.. بل يمتد لقائمة طويلة من: العدس. والطعمية. والكشري. وحتي الكوارع. وحلويات الذبيحة. ولحمة الرأس. والقلوب.. والمحاشي التي تجيدها السيدة المصرية بجودة عالية.. أعلي من أي سيدة أخري في أنحاء البسيطة.. والتي يطلق عليها البعض الأكلات الشعبية.. وتستخدم فيها الدمعة والبصل والتقلية.. لتمييزها عن الأكلات الأوروبية المسلوقة من الكرنب ومشتقاته.. والقرنبيط والشوربة المصنوعة منه.. ولكنها دائماً هي المفاجأة السارة علي مستوي االعطاء الأسري.. وعربون صداقة مجرب من كل أبنائنا بالخارج. عناصر الظاهرة جديرة بالترويج الاقتصادي المرتبط بالسياحة والثقافة. وقوة الشعوب الناعمة عندما كنت في ألمانيا.. منذ الستينيات من القرن الماضي.. اكتشفت إقبال أهالي وضيوف برلين علي محل العدس الساخن الذي يقدمه أحد الشباب. ابن لأحد كبار الشيوخ.. ولمست النجاح الذي تحقق له.. ربما لأنه وسيلة تدفئة في مواجهة البرد. وثلوج الشتاء. وتجديد بالإضافة للعادة الألمانية.. تناول الهوت دوج.. وأصابعه المغروسة في المسطردة.. وبالإقامة هناك.. ثم السفر بعد عدة سنوات.. كان من الطبيعي اكتشاف افتتاح العديد من المطاعم.. بعضها تخصص في المأكولات الشرقية.. والآخر في الأجبان البلغارية.. ثم اقتحم المصريون مجال المطاعم.. بعدما لاحظوا انتشار المكرونة بأنواعها والبيتزا "التي أصبحت علامة إيطالية" ليقدموا المأكولات المصرية المسبكة من الملوخية.. والكوسة. والبامية.. والمشويات سواء المتوفرة في البيئة الألمانية أو التي استوردوها عن طريق الأهل غالباً من مصر والبلاد العربية. التي تعتمد الطبخ المصري. ثم بدأ الإدراك بأهمية المأكولات الشعبية.. كإضافة للقوة الناعمة المصرية.. من خلال تضمينها الأسابيع الثقافية والمهرجانات المتنوعة في بلاد العالم.. سواء التي تنظمها وزارات الثقافة والسياحة.. أو الجهات ذات العلاقة.. مثل مصر للطيران وهيئة تنشيط السياحة.. وكانت هذه المأكولات تتصدر البوفيه المفتوح بالمهرجانات. يستدعي لإعدادها طُهاة متخصصون.. وأساتذة في المهنة.. وكان بعضهم يتم التعاقد معه من قبل مؤسسات وفنادق ومطاعم في هذه البلاد البعيدة.. لتقديم مأكولات عريقة. ويعلم أصحابها مدي الإقبال والشوق إليها.. من المصريين والعرب المغتربين لديهم. ثم بعد أن امتدت العملية إلي دول الخليج.. والبلدان التي تستضيف عمالة مصرية بأعداد كبيرة. حيث نجح نخبة من أهم رجال الأعمال في الاتفاق مع أصحاب أشهر محلات الفول والطعمية والكشري والكباب والكفتة.. لافتتاح فروع تنقل المائدة المصرية بكل محتوياتها حتي السلطات والمخللات والطرشي.. وباتت من معالم هذه المدن.. وحظيت بشهرة ملموسة.. جذبت حتي أعداد من العمالة المصرية المتخصصة... التي جاءت تبحث عن حلمها.. وكنزيل من أهل البلاد لتفتح مشروعاً للأكل.. بإحساس ذاتي أن هذا يدعم قوتنا الناعمة.. ويضعوا البصمة الأولي لنشاط اقتصادي.. عائده مجزي.. وإسهامه الحضاري ملموس.. وعلي حد علمي فقد انتشرت هذه الخدمة إلي قصور الكبار في هذه البلاد من خلال اعتماد نشاط متميز جمع ربات البيوت البارعات.. وتولين إعداد الأكل البيتي.. وتلبية متطلبات هذه العزومات. بالمقابل ومع التدفق السياحي فقد خرجت الخدمة من دول الخليج إلي مصر ولبنان وبلاد سياحية أخري.. تمثلت في مطاعم المندي المخصصة في لحوم الضأن والأرز العنبري. وما يحيط بالصينية من مكسرات وزبيب.. وأصبحت هذه الأكلة مطلوبة بشكل واضح من المصريين أيضاً.. المهم ومع هاجس اليونسكو العالمي.. في تسجيل أصناف الطعام المختلفة ضمن ابتكارات شعوب بعينها.. وما شاب ذلك من خطأ.. نسب الملوخية لليابان. والفلافل للإسرائيليين.. فالمطلوب من أبنائنا بالخارج التفكير الجدي.. لاعتماد أكلاتنا الشعبية. وضمن الاهتمام الاستثماري.. فليس هناك بعد معدة الإنسان من أهمية.. وليس أيضاً بعد توفر هذه الأكلات في الخارج من هوية يسعد بها المصريون في أنحاء الدنيا.. ونترك الملف أمام الخبراء والمتخصصين.. لإعداد منظومة تشغيل نموذجية.. تتيح فرص العمل المشروعة للإقلال من الهجرة غير الشرعية. وتحافظ علي تراثنا الحضاري.. وتدعم قوتنا الناعمة. وتفعيل أكلاتنا الشعبية لمزيد من الازدهار السياحي.. والاتصال الاجتماعي.. والتقارب العالمي.