في أحد أشهر أفلام الغزو الفضائي "يوم الاستقلال" بعد أن يتمكن البشر من احتجاز كائن غريب من أسري الغزو علي الأرض. وباستجوابه بشأن نية قومه تجاه الأرض والجنس البشري. يرد ذلك الكائن بكلمة "موتوا" قالها بانجليزية سليمة وبنبرة غيظ هائلة وغير مبررة! لطالما أثار هذا المشهد تنمري. فأولا هو يقدم هذا الكائن بهيئة تشريحية مشابهة أو مستوحاة من هيئة الإنسان مع بعض التشوّهات الكارتونية التي يفترض أن تثير بداخلنا الرعب. وثانيا هو يجعل أسلوب التواصل بين كائنات تفصلها مجرات أمر مبالغ في بساطته "سؤال وإجابة علي نفس تردد الوسيط الهوائي وتقنية هز الأحبال الصوتية ناهيك عن اللغة". وثالثا هو يفترض أن وجود من يشاركنا هذا الكون يحتم الصدام معه. كل ما سبق كان يؤكد أننا أمام صناع فيلم محدودي الخيال وأحاديي النظرة. يرون الأمر بنفس منطق الصراعات بين البشر وأمثالهم. وذلك تحديدا ما تجنبه المخرج الكندي "دينيس فيلنوف" بفيلمه الأخير"وصول"arrival - الذي يُعرض بدور السينما الآن. يقدم فيلنوف الخيال العلمي بشكل أكثر علمية محطما كثير من كليشيهات تلك النوعية من الأفلام. بداية من شكل الكائنات الفضائية والبيئة المعيشية لهم بالفصل عن غلافنا الجوي وما نعرفه من ثلاث حالات للمادة "صلبة. سائلة. غازية". مرورا بطريقة التواصل مع البشر التي كلفته أكثر من نصف زمن الفيلم لتتسم بمصداقية أعلي وبإثارة بعض التأملات الفلسفية عن معني التواصل وأهميته. ووصولا إلي سبب مجيء تلك الكائنات للأرض والذي قد نستشفه من اختيار عنوان الفيلم "وصول" بأبعاده السلمية. بدلا من "غزو" علي سبيل المثال. يرسم السيناريو تاريخ جيد لشخصية البطلة لويز بانكس "آمي أدمز" خبيرة اللغويات التي تتعاون مع الإدارة الأمريكية في فك شفرات التواصل مع الكائنات الفضائية.. ولكن تظهر مشكلة مع نهاية الفيلم عند محاولة الربط بين الظاهرة الكونية وتاريخ لويز "أو مستقبلها" وجرحها الشخصي بطريقة بدت ملفقة وغارقة في الاستعانة بالمدد الغيبي. كعادة تلك النوعية من الأفلام التي تستهدف التلاعب بالزمن واختراقه. نجد تهميش ساذج لنظرية الحتمية الفيزيائية المعنية بصيرورة الأفعال في الخط الزمني للكون وخضوع كل فعل لتسلسل منطقي سببي. السؤال هنا إن كنا أمام إنسان يستطيع رؤية المستقبل فلماذا لا يستطيع بكل بساطة تذكر الماضي المتمثل في مكالمة هاتفية أنقذت الكوكب من حرب إبادة؟.. وهل الثرثرة العاطفية التي قيلت في تلك المكالمة كانت حقا كفيلة بتغيير سياسة إحدي الدول العظمي؟! الأمر مُحيّر وغير مقنع. لكن عندما يقدم لك فيلم عناصره المرئية والصوتية والتمثيلية والعاطفية بتلك الدرجة من الإحكام فلن تجد أمامك سوي أن تعطل العمل بالنصف الأيسر من المخ قليلاً وتتغاضي عن ثغرات الحبكة وحلولها العاجزة. فتتلقي العمل بطريقة تلقي الشعر والسحر خاصة لو جاء علي أنغام مقطوعة "ضوء النهار" ل "ماكس ريشتر" التي استخدمت حديثا في عديد من الأفلام الأمريكية كان آخرها "وصول". وفي كل مرة أتت المقطوعة بثمارها. فهي تتمتع بقدرة إعجازية علي تخدير الحواس النقدية وإيقاعك في بئر الشجن وفي غرام كل ما تراه عيناك طالما تعلقت مسامعك بتلك المقطوعة. وهو السبب الذي يجعل صناع الأفلام يتهافتون علي تضمينها بأفلامهم. يتنقل فيلنوف بين العوالم السينمائية مع كل فيلم بشكل ملحوظ. فمن مأساة الحرب اللبنانية في "حرائق" إلي صراعات الحدود المكسيكية في "سيكاريو" إلي غموض قرية أميركية صغيرة في "سجناء" إلي أجواء ما بعد حداثية في "عدو"وكونية في "وصول".. وبرغم تشاركهم في بعض السمات علي رأسها أسلوب ألاعيب النهايات والخدع الدرامية twists. إلا أن تلك الأفلام علي جودتها هي أفلام بلا شخصية. هي إنجازات كمية وليست نوعية.. مازال لدي فيلنوف الأفضل ليقدمه عندما تهدأ حالة النهم التي تنتابه وتتنقل به بين الموائد.. عندما يعثر علي صوته وعالمه الخاص.