أشعر بالأسف الشديد. إذ اضطر لاتهام دولتي المصرية بسلطاتها الثلاث بالتخاذل وافتقاد القوة والحسم. في تعاملها مع إيطاليا في قضية مقتل الباحث الإيطالي الشاب "جوليو ريجيني". وأقرر أن الأسلوب الذي تدير به الدولة هذه الأزمة لا يمثلني. وأظنه لا يمثل أي مواطن مصري كريم.. بل ولا ينتمي ولا أدري لماذا لهذا العهد الذي يستعيد فيه هذا المواطن إحساسه بالعزة والكرامة. ويشعر بالفخر حين يقول: أنا مصري. إن التعامل ب "الحكمة" في هذه القضية. أو في غيرها. لا يجب أن يكون من طرف واحد.. ولا مع طرف لا يقدر هذه الحكمة. أو يأخذها في الاعتبار. ثم إن الحكمة لا تعني الضعف.. فرق هائل بين الكلمتين. ولا تعني أيضا القبول ب "التهديدات" الفجة المتكررة لمصر من الجانب الإيطالي الرسمي وغير الرسمي. ولا تعني أن ندير كل يوم خدنا الأيسر لمن يصفعنا علي خدنا الأيمن. إيطاليا ليست قوة عالمية عظمي حتي تهددنا "بردود فعل وإجراءات صارمة وفورية".. ونحن لسنا دولة صغري أو مجهولة حتي نقبل هذه التهديدات ونبتلعها كل يوم. إن امتناع وزارة الخارجية المصرية أمس الأول عن الرد علي تهديدات الجانب الإيطالي لنا وسعيه لفرض شروطه علينا في هذه القضية هو أسوأ موقف مصري علي الاطلاق. سواء علي المستوي الدبلوماسي أو السياسي. لأنه. بالنسبة للجانب الإيطالي. لا قيمة له. وغير مقدر. لقد كان يمكن قبول هذا الامتناع. لو أن التهديدات الإيطالية صادرة من شخص أو جهة غير رسمية. أو أنها أقوال مرسلة نشرت في صحيفة أو أذيعت في وسيلة إعلامية. وقتها يمكن أن تفصل هذه التهديدات عن الموقف الرسمي للدولة الإيطالية. ونمتنع عن الرد حرصاً علي العلاقات بين البلدين. لكن حين تكون هذه التهديدات صادرة علي لسان وزير الخارجية الإيطالي. أي رئيس "الدبلوماسية الإيطالية". وأمام أعضاء مجلس الشيوخ الممثلين "للشعب" الإيطالي في اجتماع رسمي. فلمن إذاً تبعث وزارة خارجيتنا برسالتها المتهالكة حول العلاقات بين البلدين. بالامتناع عن الرد علي التهديدات حفاظاً عليها؟! لقد وصف وزير الخارجية الإيطالي تعاون السلطات المصرية مع بلاده في القضية بأنه "غامض" و"غير كاف" واشتمل علي "ملفات فقيرة في المعلومات". وطلب ضرورة الحصول علي "الوثائق المفقودة" في القضية وأهمها حسب قوله بيانات مكالمات الهاتف المحمول لريجيني. وصور الفيديو التي سجلتها كاميرات مترو الأنفاق لتحركاته. وأصر علي التأكد من هوية المسئولين عن إخضاع ريجيني للمراقبة قبل وفاته. ثم هدد بأنه في حالة عدم وجود أي تغيير في المسار الذي تتبعه السلطات المصرية. فإن حكومته علي استعداد لاتخاذ "ردود فعل" وتبني "إجراءات ومعايير صارمة وفورية" وبشكل يتناسب مع الحدث. هل يمكن أن تواجه مصر مثل هذه الشروط والتدخلات والتهديدات "بالامتناع عن الرد"؟! لقد جربنا هذا الأسلوب "المهذب" من بداية القضية. فخسرنا.. وكنا كلما تراجعنا خطوة تصور الجانب الإيطالي أن هذا يعني أن التهمة ثابتة علينا فتقدم خطوات وضاعف الضغط علينا. إن تقدير قيمة العلاقات بين البلدين. وأهمية الحفاظ عليها. إن لم يكن مبدأ ثابتاً في عقيدة الطرفين. رسمياً وشعبياً. فلا قيمة له. والأفضل أن يتم التعامل بالمثل حفاظاً علي الكرامة الوطنية. لقد جاءت تهديدات وزير الخارجية الإيطالي. بينما يستعد وفد قضائي وأمني مصري رفيع برئاسة النائب العام المساعد. للسفر إلي إيطاليا لاطلاع مسئوليها علي آخر ما توصلت إليه التحقيقات في القضية. بتعاون كامل مع الإيطاليين. ومعني ذلك أن وزير الخارجية تعمد اطلاق تصريحاته في هذا التوقيت ليضع مصر تحت أكبر ضغط ممكن قبل 24 ساعة فقط من سفر وفدها. ولقد كان أبسط رد مصري علي هذه التصريحات. يحفظ الكرامة الوطنية المصرية. هو قرار مصري ب "تعليق" سفر الوفد. وإصدار بيان رسمي تعلن فيه مصر أنها لا تستطيع الاستمرار في التعاون مع الجانب الإيطالي في القضية ما لم يتوقف عن أسلوب الضغط والتهديد الذي يمارسه. ولا يساعد علي بناء الثقة بين البلدين. إن مقتل مواطن أجنبي في أي بلد. حتي ولو صاحبه تعذيب أو غيره. ليس نهاية العالم. وهناك عشرات الحوادث المماثلة في كل أنحاء الأرض. متهم فيها دول وأجهزة مخابرات وغيرها. ولا يدخل أطرافها النفق المظلم الذي نصر نحن علي أن ندخله بأقدامنا. مصر ليست في قفص الاتهام.. لا كدولة. ولا سلطة من سلطاتها.. أداؤنا السييء. وإدارتنا المرتبكة للأزمة. وتهافتنا علي الحرص علي علاقتنا بطرف لا يبادلنا نفس هذا الحرص. هو الذي يجعلنا نبدو وكأن "علي رأسنا بطحة" ويزيد طمع الآخرين في ضعفنا. ثم تعالوا إلي قضية اختفاء المواطن المصري "عادل معوض" في إيطاليا منذ أكتوبر ..2015 ماذا فعلنا بها أو لها. لقد أثرنا هذه القضية في وقت متأخر في محاولة لوقف موجات الضغوط الإيطالية علينا في قضية ريجيني.. ولم يكن أحد في الداخل أو الخارج قد سمع بهذه القضية من قبل أو عرف عنها شيئاً. فبدا إعلاننا عنها وكأنه مجرد ورقة في ملف الدفاع الفاشل عن أنفسنا. ولو كنا جادين في الأمر. ومع طرف لا يقدر حرصنا علي العلاقات معه. لوضعنا أساساً لعلاقة بين القضيتين. وربطنا أي تقدم من جانبنا في قضية مقتل ريجيني بتقدم تحقيقات السلطات الإيطالية في قضية الكشف عن اختفاء مواطننا عادل معوض. وهناك في إطار مبدأ المعاملة بالمثل عشرات الإجراءات والخطوات التي لم تتخذها مصر. بسلطاتها الثلاث: تنفيذية وتشريعية وقضائية في هذا المجال. وإن كان الوقت لم يفت بعد للجوء إليها. فمثلاً.. لماذا لا تتهم مصر السلطات الإيطالية بالبطء في إجراءات الكشف عن اختفاء مواطننا والذي مضي علي اختفائه خمسة شهور ونصف الشهر. وليس شهرين فقط مثل ريجيني؟! لماذا لا يطلب النائب العام المصري أن يشارك محققون مصريون في التحقيقات التي تجريها السلطات الإيطالية في قضية عادل معوض؟! لماذا لا ننظم مظاهرة مصرية أمام مقر السفارة الإيطالية بالقاهرة طلباً لافصاح إيطاليا عن مصير عادل معوض ومكان اختفائه وأسبابه؟! لماذا لا نبعث بأسرة عادل معوض إلي روما مع وفد برلماني مصري لتشرح قضية اختفاء عادل للبرلمان وللرأي العام الإيطالي؟! لماذا لا يخرج وزير خارجيتنا ليعلن أن مصر "تريد الحقيقة" في قضية اختفاء عادل معوض. وأن تطلعنا إيطاليا علي كافة التحقيقات التي أجرتها في هذه القضية؟! لماذا لا يكون موقفنا في هذه القضية واضحاً وقوياً ومستمراً ومتصاعداً. وأن تكون لدينا أيضا أوراقنا لمواجهة الضغط بالضغط والتهديد بالتهديد؟! العالم لا يعرف غير هذه اللغة. إن العالم لا يقيم وزناً ل "دبلوماسية المهذبين".. الدبلوماسية كالديمقراطية.. لابد أن تكون لها أسنان تظهر عند اللزوم. خاصة مع طرف يتصورك متهماً. وضعيفاً. لقد انتقدت بشدة في مقال الخميس الماضي "تهديدات شيوخ إيطاليا" واعتبرت ما صدر وقتها عن مجلس الشيوخ الإيطالي ضد مصر غير مقبول. اليوم. وقد أصبحت التهديدات "رسمية" وعلي لسان وزير الخارجية الإيطالي. دون رد قوي وحاسم من الخارجية المصرية. بل من الدولة المصرية كلها. فإني أشعر مرة أخري بالأسف إذ أقول إن موقف بلدي في مواجهة هذه التهديدات أيضا غير مقبول. وأقول في النهاية. إن التعنت الإيطالي غير الطبيعي. والمتصاعد. والذي يتجاوز حجم القضية وتاريخ العلاقات بين البلدين. ولا يبرره حتي عدم الوصول إلي الحقيقة حتي الآن. لابد أنه يخفي وراءه سراً قد تكشفه الأيام. ولذلك لابد من مواجهته بكل قوة.