حظيت مصر في النصف الأول من القرن العشرين برجال عظام. أحبوا وطنهم. وعشقوا ترابه. وسعوا نحو النهوض به في الاقتصاد والأدب والشعر والوطنية والسياسة.. كان من حظي ورفقائي من محبي الثقافة وقد أتينا بعد هذه الفترة ولم نعاصر هؤلاء العظام في زمنهم أننا قرأنا عنهم وقرأنا الكتب والمجلات التي صدرت في أيامهم الجميلة. كان باعة الكتب القديمة هم المصدر المهم الذي يغذينا بما نريده من كتب.. في طنطا كان عم قطب الذي يفرش كتبه بجوار مسجد السيد البدوي. والشيخ إبراهيم الشناوي. وعم عبدالحميد الذي يفرش كتبه بجوار مدرسة الست مباركة. وكنا نسافر الي المحلة الكبري لنذهب الي شارع العباسي حيث باعة الكتب القديمة يتواجدون» لنسعد باقتناء ما تقع عليه أيدينا. وما يتناسب مع إمكانياتنا. عن طريق هذه الكتب عرفنا عظمة رجال مصر في تلك الفترة. وقد أحببناهم دون أن نعاصرهم. ومنهم المرحوم محمود فهمي النقراشي.. كان- رحمه الله- رئيساً لوزراء مصر. كما كان الحاكم العسكري سنة 1948 بسبب اشتعال الحرب بين العرب واليهود. وكانت جريدة المصري تشن عليه هجوماً عنيفاً بسبب الانتماءات الحزبية. إذ ان الباشا كان عضواً بحزب الوفد الذي تمثله جريدة المصري. ويرأسها الأستاذ حسين أبوالفتح.. انشق الباشا عن حزب الوفد. وكون حزب الأحرار السعديين. كان الهجوم عليه عنيفاً من الجريدة. إلا أنه لم يحاول إغلاقها أو القبض علي محررها. أثناء حرب العرب مع اليهود. وإعلان الأحكام العرفية» حملت الجريدة مقالاً عنيفاً تهاجم فيه الملك فاروق. وتنتقده انتقاداً لاذعاً» فأصيب الملك بالذعر والغضب. وجمع وزراءه طالباً من رئيسهم الشهيد محمود فهمي النقراشي باشا بأن يغلق الجريدة. ويعطل إصدارها. استناداً الي اعلان الأحكام العرفية. وكون البلاد في حالة حرب. وما كان ينبغي لتلك الجريدة ان تهاجم الملك حينئذ. فما كان للنقراشي باشا إلا أن قال لجلالة الملك ان الجريدة لم تنشر أخباراً تخدم العدو. إنما تحمل رأياً ولا سبيل إلي محاسبتها إلا ببلاغ يقدم للنائب العام لينظر فيما إذا كان المقال يمثل سباً و قذفاً أو رأياً. أما أنا بصفتي حاكماً عسكرياً لن أصادر جريدة لمجرد أنها تحمل رأياً من باب النقد المباح. وأضاف فيما بعد أن جريدة مصرية تنافس الجرائد التي أنشأها غير المصريين لهي أمل عظيم لكل محبي الوطن وجنوده. وأضاف أن آمال سعد زغلول كانت في وجود جريدة مصرية تنافس الأهرام. ولست أنا الذي أوقع بإمضائي قتل حلم من أحلام سعد زغلول.. لم يجد رئيس الوزراء سبيلاً أمام إصرار الملك علي غلق الجريدة ومصادرتها سوي أن يقدم استقالته» فتراجع الملك. واضطر أن يخضع لرأي رئيس الوزراء.. قيل للنقراشي باشا كيف تدافع عن جريدة تعاديك وتشن عليك دائماً هجوماً عنيفاً وتنتقدك. وقد جاءتك الفرصة للرد عليها.. أجاب لست أنا ذلك الرجل الذي يصدر قرارات تقيد حرية الرأي.. صورة مضيئة وحكاية مبهرة تبرز عظمة رجال مصر الوطنيين في النصف الأول من القرن العشرين.