كدت أتخذ لهذه الكلمات عنواناً آخر هو صحيفة ثورة 23 يوليو ثم توقفت اقتناعاً بأن ثورة يوليو المجيدة توقفت وإن شئت فقل: "انتهت".. برحيل الزعيم جمال عبدالناصر في 28 سبتمبر 1970 ثم شهد التاريخ ولا يزال مرحلة أخري عاشتها "الجمهورية" وواكبتها وقد بقي فيها قبس خاص ميزها عن الصحف المصرية الأخري وعن كل صحيفة أخري. وفي العيد الستيني لصحيفتنا وفي محاولة لإلقاء نظرة فاحصة في عقودها الستة وفي مراحل مختلفة من عمرها المديد طرح السؤال نفسه: لماذا اختفت صحف ومجلات أخري منها صحيفة "الشعب" ومجلة "التحرير" من صحف ثورة يوليو وبقيت "الجمهورية" تتعثر أحياناً وتتقدم أحياناً أخري. تتراجع أحياناً ثم تخطو إلي الأمام أحياناً أخري.. وكلما تعثرت نهضت وعادت فتية قوية مؤثرة مضموناً وتوزيعاً وانتشاراً وحفلت صفحات "الجمهورية" طوال الأسبوع الماضي بلمحات مهمة من ذلك كله وسجلاً لتاريخ ممتد من أستاذنا حسين فهمي إلي الزميل الأستاذ جمال عبدالرحيم أرجو أن تكون هذه الصفحات فاتحة شهية لأبناء "الجمهورية" وخريجيها للقيام بمهمة نبيلة وهي كتابة تاريخ هذه الصحيفة التي كان صدورها فتحاً جديداً في الصحافة المصرية خاصة والصحافة العربية عامة ولعل ما كتب عن هذه الصحيفة المناضلة يكون خير دافع إلي ذلك.. وفي حدود علمي- وهو قاصر- فإن دراسة الدكتور الحسيني الديب عن دار التحرير والتي ظهرت في كتاب في 1986 بعنوان "إدارة الصحف: دراسة نظرية وتطبيقية" فريدة في بابها ويغلب علي الظن أن هناك رسائل جامعية أخري تناولت جوانب مختلفة من صحيفة "الجمهورية". ظروف النشأة والميلاد الصحف تشبه الكائنات الحية من حيث إن ظروف الميلاد والنشأة تظل مؤثرة فيها طوال عمرها سواء قصر أم طال.. ونشأة "الجمهورية" وميلادها معروفان صدر عددها الأول في 7 ديسمبر 1953 بناء علي إخطار من جمال عبدالناصر السكرتير العام ل "هيئة التحرير" وهي أول تنظيم سياسي لثورة 23 يوليو وكان أنور السادات هو أول مدير عام لها أي رئيس مجلس الإدارة ويذكر الحسيني الديب أنه منذ إنشاء مؤسسة دار التحرير وإلي سنة 1985 توالي علي رئاسة مجلس إدارتها عشرة رؤساء من بينهم ستة عسكريين وعدد هؤلاء العسكريين لم يوجد في أي صحيفة مصرية أخري. وإذا كانت الصحف تتأثر بظروف الميلاد والنشأة فإن هذا لا يعني أنها تبقي طوال عمرها علي نمط واحد بل تشهد غالباً تحولات وتغييرات في حين يظل الأصل مؤثراً بشكل أو آخر. وبدرجة أو أخري. وفي سنوات من عمرها شهدت "الجمهورية" تغييرات بل تقلبات عاصفة ولكن هذه العواصف كانت ما تلبث أن تهدأ وفي الغالب فإنها قبل أن تطوي رياح هبوبها. تترك تأثيريا بقدر أو آخر سواء من حيث المضمون أو الشكل أو التوزيع وعلي الرغم من هذا ظل عالقاً بهذه الصحيفة عنصر ثابت ومستمر يمكن التعبير عنه بأنها صحيفة الضمير الوطني المصري والقومي والضمير يعني اختصاراً "الوعي الأخلاقي العام" أو ما يعرفه "القاموس الموجز" لمجمع اللغة العربية بأنه "استعداد نفسي لإدراك الخبيث والطيب من الأفعال والأقوال والأفكار والتفرقة بينها واستحسان الحسن واستقباح القبيح منها". ولا يستطيع المرء في هذه المناسبة وفي أي مناسبة أخري رصد جميع المواقف والحالات التي عبرت فيها الجمهورية عن الضمير الوطني والقومي طوال 60 سنة ويكفي أن نأخذ مثلين بارزين ومعبرين بقوة عن هذا الضمير الحي. مصطفي بهجت وتعالوا إلي كلمة سواء تولي الأستاذ مصطفي بهجت بدوي رئاسة تحرير "الجمهورية" مرتين عاصرت الثانية منهما ولم أشهد الواقعة التي سأتحدث عنها كنت عامئذ أدرس الصحافة في ألمانياالشرقية حيث تلقيت نص المقال الذي كتبه مصطفي بهجت بدوي بعنوان "تعالوا إلي كلمة سواء" كما وقفت من زميل زار برلين وقتئذ علي ردود أفعال هذا المقال الذي حمل خطاباً إلي جميع من كانوا يشاركون بكتبهم ومقالاتهم وأفلامهم ومسرحياتهم في الحملة الظالمة ضد الزعيم جمال عبدالناصر وقد كانت هذه الحملة ولا تزال مدبرة ومخططة وكان الدفع الثوري فيها بالملايين وترجع مقدمات هذه الحملة إلي ما بعد انقلاب 13 مايو 1971 مباشرة وهو الانقلاب الذي أطاح ب "المجموعة الناصرية" من السلطة والذي سموه لحاجة في نفس يعقوب "ثورة التصحيح" وقد اشتعلت الحملة من جديد بعد حرب أكتوبر المجيدة وشارك فيها كثيرون ممن أرادوا تصفية الحساب مع الزعيم الخالد وممن انقلبوا علي أعقابهم وتناسوا ما كتبوه من قبل من مديح بلا حدود في حياة عبدالناصر وقلبوه إلي ذم حقير كان الهجوم شرساً ومقذعاً وحافلاً بالافتراءات والأكاذيب وكانت وراءه جهات شتي وفي مواجهة هؤلاء جميعاً ومن وراءهم ممن لا نعلمهم ولكن الله يعلمهم انبري مصطفي بهجت بدوي وحده علي صفحات هذه الصحيفة شاهراً قلمه وداعياً الجميع أن "تعالوا إلي كلمة سواء" كان رده المباشر علي مقال للأستاذ صالح جودت. وإن كان في حقيقته ومضمونه رداً علي الحملة الشاملة الظالمة علي زعيم ثورة 23 يوليو وقد أعاد نشر هذا المقال في كتاب بعنوان: "وجاء العيد بعد العاشر من رمضان" والمقال يستحق أن يقرأ كاملاً فهو قلادة في عنق هذه الصحيفة التي اعتادت أن تقاتل حين ينسحب وينزوي الآخرون ويكفينا من هذا المقال قول صاحبه: "إن عبدالناصر كان شخصية فذة في تاريخ مصر والوطن العربي وابناً باراً يمثل بعثاً وانطلاقة مرحلة بعيدة الأثر في المنطقة والعالم وإن تقييمه الحقيقي ملك للأجيال القادمة كما أن حسابه رحمه الله وغفر له هو كأي عبد من عباد الله متروك لربه وعلي سبيل المثال والاستدلال فحسب نقول إن الثورة الفرنسية سنة 1789 وقعت فيها مذابح ومظالم تفوق الحصر ولكنها بقيت في تاريخ فرنسا علامة طريق وأعز ما تحفل به وتحتفل حتي الآن بل "أشرف" ما بلورته للعالم أجمع من مبادئ . كان المقال انفجاراً قوياً ذا دوي هائل ترددت أصداؤه بسرعة البرق ونفدت أعداد الجمهورية خلال ساعات وكانت لا تستطيع طبع أعددا اضافية بسبب أزمة خانقة في الورق أما من هم خلف صالح جودت فقد تلقوا الرسالة وفهموها وأضمروا في أنفسهم أمراً وقرروا أن ينتقموا وأن يشردوا مصطفي بهجت والذين معه وحوله وفي مارس 1975 أي بعد حوالي عام علي المقال القنبلة صدرت أكبر حركة تغيير في الصحافة القومية نقل زملاء وأساتذة من الجمهورية إلي الأخبار وإلي روزاليوسف وجاء في القرار قبل أن يعدل بنقل مصطفي بدوي "محرراً" في الأهرام كأن كلمة محرر سبة ولكن من يجيز أن يصبح رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير مجرد "محرر"؟! كانت الجمهورية بهذا المقال تؤكد مكانتها صحيفة الضمير المصري فما كتبه مصطفي بهجت وما سطره لم يجرؤ آخرون في ذلك الوقت في الصحف الأخري علي كتابة سطر واحد منه. كامل زهيري و"من ثقب الباب" "الساكت علي الحقيقة" كما يقولون شيطان أخرس وعلي الصفحات التالية بعض ما أعرفه وما أدركه وضعته وديعة لدي القارئ لعلي أدرك به بعض ما أراه واجباً وطنياً ..بهذه الكلمات اختتم الأستاذ كامل زهيري مقدمة كتابه "مزاعم بيجين" فالرد عليها بالوثائق "يضم الكتاب العمود الفقري الذي كتبه علي الصفحة الأخيرة من الجمهورية بعنوان "من ثقب الباب" وذلك ابتداء من 19 نوفمبر أي ابتداء من يوم زيارة الرئيس السادات المشئومة إلي القدسالمحتلة واستمرت هذه الأعمدة إلي 17 فبراير 1978 وتعتبر في مجموعها من أهم ما نشرته الصحف المصرية بل والعربية عن الصهيونية والكيان الصهيوني إلي اليوم ..بهذه الأعمدة تكلمت "الجمهورية" وبأعلي صوت في حين التزم كثيرون الصمت بل وباركوا ما سموه "السلام" وحين يقول المرء إن هذه الأعمدة تعبير عن الجمهورية ومواقفها فإنه يشير إلي موافقة الأستاذ محسن محمد رئيس التحرير في ذلك الوقت علي نشر هذه السلسلة من الأعمدة التي تمثل في حد ذاتها موقفاً متكاملاً ضد الصهاينة إسرائيليين وغير إسرائيليين. ثبات علي المبدأ.. ولكن أكتفي اليوم وفي هذه المناسبة بهذين النموذجين الرائعين دليلاً علي تعبير الجمهورية عن الضمير المصري وفي الذهن وعلي ملايين الصفحات من 7 ديسمبر 1953 إلي اليوم نماذج عديدة أخري وقد يصعب حصرها ومع ذلك هناك ملاحظة جديرة الذكر وهي أن كون الجمهورية منذ نشأتها تعبيراً عن الضمير المصري لا يعني أنها طوال تاريخها التزمت بهذا.. هذا حكم غير دقيق ففي تاريخ أي صحيفة هناك "الخط العام" وهناك أيضاً مواقف وأيام وربما سنوات ابتعدت فيها الجمهورية بدرجة أو أخري عن هذا المسار العام لكنها كانت لا تلبث أن تعود "صحيفة الشعب" والضمير الوطني.. وستظل هكذا طالما ظلت تصدر والبركة في أبنائها جيلاً بعد جيل من واجبهم جميعاً أن يفخروا ويفاخروا بأنهم أبناء صحيفة كبيرة ستكون بعزيمتهم وبأقلامهم صحيفة أكبر.. وأكبر وإني بهذا من المؤمنين الواثقين وسنري إن شاء الله.