أمي التي لا تقرأ أنجبتني وصنعت لي من العشق قلماً مشرقاً كنور قلبها وحاداً كحدة طبعها إذا ما قسا عليها الزمانُ فأخطأ طفلُها. أمي التي إذا ما أهملتني غابَ عنها الوجودُ فقرضت أناملها واحتضنتني .. فاحتوتني .. وألبستني عباءة الحنان فأمنتني. أمي التي أبصرت عيبي .. فقبلتني .. وأنشأت لي مدرسة للتقويم فأودعتني وكفلتني وعلمتني ودربتني .. فلما شببتُ لاقيتُ حبيبتي الصغرى فلما نزلت من عليائها وصارت لي أماً وقدراً... أنكرتني. أمي التي علمتني أن عش رحيماً ومت رحيماً ولا تغرنًَك الدنيا بزخرفها ولا تقل قولاً إلا وأنت فاعله وأحسن إلى الناس وإن أساءوا... فالحبُ حق والموتُ حق والجنةُ حق والنارُ حق. أمي التي أرضعتني وأبكتني وأنستني معنى أن أكره ... لأنها فقط أعطتني .. دون أن تسأل أن أعطيها. أمي التي أفزعتني بحنانها فتصورتُ أن العالم ذائب في بحر من الملائكة فقد جئتها وحيداً شريداً باكياً خائفاً جائعاً ضائعاً تائهاً... والناس حولي يضحكون - ذلك كان لحظة ولادتي.. بكيتُ بحرقة وكأن خارج هذا العالم ما يمسكُ بي ويجرني ويقسوُ عليّ وأنا ما زلتُ أقاوم... لأنني فقط خشيتُ فراق أحشاء أمي التي لا تقرأ. يداها ترابطان على جنبي وكأنهما تزنان بي الكون.. فقد شعرتُ وكأنني الكون.. كأنني في عينها الكون... عرفتُ نفسي وإنسانيتي وعزتي.. تفاخرتُ وتباهيت بعد لحظةٍ من أكبر لحظات الخوف.. حينما فارقتُ أحشاءَ أمي التي لا تقرأ. داعبتني وهذبتني وأضحكتني وأمنتني وهدأتني .. وكأنني غريق غادر البحر في ليل الشتاء فجففتني وآوتني .. وصنعت لي من البحر وعاءً دافئاً فأنزلتني .. وغسلتني من الشر فشعرتُ أنني أحلقُ في الفضاء... ألم أقل لك إنها أبصرتني وكأنني محور الكون؟ يا مجلسَ حقوق الإنسان .. دستورُك الأول وجميعُ لوائحك وقوانينُك كتبتها .. أمي التي لا تقرأ!! أنا عندما رأيتها وجدتُ الدنيا تحتضنني وتعتصرُ ضلوعي بالحب.. رأيتُ العالمَ ألواناً أشجاراً أنهاراً وروداً أغصاناً بعدما رأيتهُ موحشاً ضالاً... لم تنتظر لترى كيف أنا أو كيف سأكونُ أنا - ببساطة لأن أنا هو جزء منها - وأنا أيضاً لم أنتظر فهي النورُ الذي أنارَ وحشتي طيلة تسعة أشهر كتبها الله لنا. أمي التي لا تقرأ أودعتني جنانَ الفردوس.. فسكنتُ فيها أجيالاً وكلما أظلمَ الكونُ الجديد .. تركته لأزورها - أياً كان مكانها - لأستعيدَ عالمي الجميل.