اتجهت جهود الحكومة في الفترة الأخيرة لتقنين مصارف الدعم الحكومي تحت شعار "توصيل الدعم لمستحقيه"، وتم اتباع مجموعة من السياسات التي تسير في هذا الاتجاه، وبتنا نسمع عبارة "تحميل العبء على القادرين" تتردد كثيراً سواء في الإعلام الرسمي أو برامج التوك شو في الفضائيات. وعلى الرغم مما في هذا الفكر من وجاهة، وبداية توجيه الدعم الحكومي للفئات المحتاجة على حساب "القادرين" فإن الأمر قد يحمل في طياته آثاراً أبعد مما يظهر للوهلة الأولى، ولا يبدو حتى الآن أن هناك وعياً بهذه الآثار أو تحضيراً لمواجهتها. فمصر من الدول التي ظلت تصنف لمدة طويلة من الزمن كدولة تنخفض فيها تكاليف المعيشة بسبب سياسات الدعم وضبط الأسعار، وبالطبع فإن مرتبات الوظائف المختلفة في الشركات المحلية (بعكس الشركات المتعددة الجنسيات) كانت تتناسب مع الخط العام للأسعار. ومع اتباع سياسات السوق المفتوح وتقنين الدعم، بدأت الأسعار في الارتفاع بمعدل سريع، وأصبح من الطبيعي لفئة كبيرة من العاملين في القطاع الخاص وكبار المناصب في القطاع الحكومي، أن تعتمد على السلع والخدمات غير المدعومة إما بسبب رفع الدعم عنها أو بسبب سوء حالة السلعة (الخبز) أو صعوبة الحصول عليها (البنزين 80)، كذلك أصبح لبعض السلع أكثر من سعر حسب المنطقة أو العرف (أنابيب البوتاجاز)، وهناك أيضاً الخدمات المدعومة التي أصبحت في حالة يرثى لها مثل الخدمات الصحية والتعليمية، أضف إلى هذا ارتفاع مستوى المعيشة وتوافر الكثير من السلع والخدمات ذات الجودة العالية والمصاحبة بحملات إعلانية جذابة ومكثفة. وبناء على كل هذه العوامل وعوامل أخرى فإن معدل الإنفاق الشهري يرتفع باستمرار، وبحسبة بسيطة للبنود الأساسية لإنفاق أسرة مكونة من أب وأم وطفلين من "القادرين" نجد الآتي: 1. مصاريف "سوبر ماركت" 500 جنيه شهرياً 2. مصاريف بنزين 250 جنيهاً شهرياً 3. قسط سيارة 1000 جنيه شهرياً (تذكروا نحن نتحدث عن القادرين) 4. مصاريف سكن إيجار جديد 800 جنيه شهرياً 5. مصاريف "بروتين" 900 جنيه شهرياً (على افتراض أكل البروتين 15 يوماً في الشهر كيلو لحمة كل مرة) 6. مصاريف مدارس 1000 جنيه شهرياً (500 جنيه لكل طفل في مدارس لغات خاصة متوسطة المستوى لا يحتاج فيها الطالب لدروس خصوصية) 7. مصاريف ترفيه (مصيف وفسحة) 500 جنيه شهرياً (تذكروا مرة أخرى نحن نتحدث عمن يفترض أنهم قادرون) 8. مصاريف متنوعة ونثريات 800 جنيه شهرياً (هدايا، زيارات، صيانة، أخرى) وبناء على هذه الافتراضات، نجد مجموع المصاريف الشهرية في حدود 6000 جنيه، وبالطبع هذه الأرقام قد تتغير بالزيادة أو النقصان ولكن تبقى في نفس المعدل ما لم يقم رب الأسرة "القادرة" بالاستغناء عن أحد البنود، أو تقوم ربة الأسرة "القادرة" بالتصرف الحكيم لضغط المصاريف بشدة. ومن الواضح أن دخل الأسرة القادرة يجب ألا يقل عن 5000 جنيه، وهو مبلغ لا يعتبر قليلاً في مصر، ومن الأرجح أن يتطلب أن يعمل الأب والأم، وإلى هنا فالصورة تبقى مقبولة فبهذا الدخل سوف تسكن هذه الأسرة ويتعلم أولادها وتصيّف وتأكل "بروتين" كل يومين وتعيش في ظروف اجتماعية معقولة إلى حد بعيد، ولكن ماذا إذا مرض أحد أفراد الأسرة أو احتاج إلى علاج؟ وماذا عن مصاريف الأسرة إذا فقد أحد الوالدين عمله؟. ومن الواجب الانتباه إلى أن الفئة التي نتحدث عنها هي فئة العاملين المهرة من المهندسين، الأطباء، المتخصصين في التسويق، المحاسبين، وغيرها من الوظائف الأساسية، وهذه الفئة هي التي تقوم بقيادة عجلة التنمية وتمثل أمل المجتمع في النمو، ومن غير المقبول أن نترك هذه الفئة عرضة للأزمات أو أن نضطرها للرحيل عن الوطن، وخاصة أن من سيجد فرصة الرحيل هو عادة أكثرها مهارة وقدرة. الحل من وجهة نظري هو أن نتأكد خلال توجهنا لسياسات السوق المفتوح وتقنين الدعم وتحرير الأسعار أن يتم تبني السياسات المجتمعية المعروفة من تأمين صحي حقيقي يوفر مستوى العلاج المطلوب، وخطط التقاعد المجزية، وبرامج تأمين البطالة، والمنح الدراسية الكلية والجزئية في الجامعات الخاصة ذات المستوى المرتفع وغيرها من البرامج المبنية على مفهوم التكافل، وليس من المطلوب من الحكومة في ظل الظروف الحالية أن تمول هذه البرامج تمويلاً كلياً ولكن أن تكفلها وتدعمها بالقوانين والأنظمة وتضمن لها الاستمرار، ولا أعتقد أن رب الأسرة القادرة سيمانع في توفير من 300 إلى 500 جنيه من البنود السابقة شهرياً لكي يضمن لنفسه مجموعة الفوائد السابقة بشرط أن تنفذ باحتراف وشفافية وتقدم خدمة حقيقية ذات جودة عالية. باختصار يجب إضافة جملة "وضمان الحياة الكريمة للجميع" لشعار "توجيه الدعم لمستحقيه".