كل الشواهد على الأرض تؤكد أن الانقلابيين لا يريدون حلا للأزمة التى تعيشها مصر والتى صنعوها بأيديهم، وليس لديهم نية ولا جدية فى الخروج من حالة الاحتقان الشديدة التى أنهكت المصريين وأتت على كثير من قيمهم وأخلاقياتهم وسلوكياتهم واقتصادهم، بل إن كل ما يصدر عن الانقلابيين بشأن الحوار عبر وسطائهم لا يعدو أن يكون مراوغة وجس نبض، فهم يرون أنهم أصحاب القرار والقوة، إن شاءوا تجاوبوا مع الحوار وإن شاءوا صدوا عنه وأعموا أعينهم وأصموا آذانهم. لقد انطلقت عدة مبادرات -فيما سبق- نحو الحوار لا يمكن أن تنطلق إلا بضوء أخضر من الانقلابيين، مما يدل على أنهم أصحاب المبادرة، ثم سرعان ما نجدهم يتبرءون منها، مما يعنى أنهم غير معنيين بالتفاوض، بل إنهم يحرقون كل وسيط يقدمونه للحوار بعد أن يحرجوه ويورطوه مع التحالف الذى كثيرا ما أعلن عن ترحيبه بأى تفاوض أو حوار يقوم على أساس الشرعية من أجل المصلحة العليا للوطن، فبماذا يفسر ذلك السلوك الغريب؟ فهم من ناحية يظهرون الترحيب بالحوار والتفاوض ومن ناحية أخرى لا يقدمون أدلة عملية تؤيد ذلك، بل على العكس تماما تأتى أفعالهم على النقيض من ذلك، أو كما يقال فى المثل المصرى "أسمع كلامك أصدقك أشوف عمايلك أتعجب". إن ما يفسر هذه المسلك المتناقض فى ظاهره هو أن الانقلابيين يحاولون استهلاك الوقت وتضييعه على مناهضى الشرعية بإظهار ترحيبهم بالتفاوض ريثما يتسنى لهم الانتهاء من التعديلات الدستورية، مستغلين ومطمئنين إلى سلمية الاحتجاجات فى كل ربوع الوطن، وإعلان أنصار الشرعية أن السلمية هى طريقهم الوحيد لكسر الانقلاب، ليضع الانقلابيون الجميع أمام أمر واقع وهو الدعوة إلى الاستفتاء على مسودة التعديلات الدستورية، فإذا قاطعها أنصار الشرعية فستكون نسبة الإقبال على التصويت ضعيفة ولكن ستكون نسبة القائلين بنعم كبيرة لأن مؤيدى الانقلاب هم الذين سيقبلون على التصويت، وسترحب بهذه الخطوة -على عوارها- أمريكا راعية الانقلاب، وربما الاتحاد الأوروبى رغبة فى تحسين صورة الانقلابيين، أما إذا شارك أنصار الشرعية فى الاستفتاء فسيضفى ذلك شرعية على الانقلاب والانقلابيين، مع استعداد كامل لتزوير ناعم أو خشن أو مزيج بينهما، يخرج النتائج على نحو يرضى الانقلاب وأهله، لأن من يغدر برئيسه ويخون الشعب فى الاستحقاقات الانتخابية السابقة وينقلب على نتائجها لا ينتظر منه أن يجرى انتخابات حرة ونزيهة، مهما ادعى توفر الضمانات المحلية والدولية لإجراء انتخابات حرة ونزيهة، وإلا فلنعط عقولنا إجازة عن التفكير، ولنقبل أن نساق مثل الحمير. وعندئذ -لا قدر الله- ستطوى صفحة الشرعية التى كانت قبل 30 يونيو لتحل مكانها شرعية جديدة مصطنعة، سيطبل لها الإعلام، وتكون هذه أولى الخطوات والمنعطفات والمنحنيات الخطيرة فى طريق عودة الشرعية وإضعاف أنصارها، وإصباغ الشرعية على الانقلاب، يعقب ذلك خطوات ومنحنيات أخرى للانقلابيين تكسبهم شرعية أخرى ممثلة فى إجراء انتخابات مجلس الشعب تسير على نحو ما أوضحته فى الاستفتاء، ليستندوا إليها لكسر العزلة الدولية التى فرضت عليهم عقب الانقلاب فتعترف بهم دول توقفت كثيرا فى الاعتراف بالانقلاب حتى تقف على حقيقة ما ستئول إليه الأمور فى مصر. هذه هى سياسة الأمر الواقع التى يراهن عليها الانقلابيون. ولعل ما نشر مؤخرا على لسان بعض أعضاء وفد الدبلوماسية الشعبية، من أن بعض السياسيين الغربيين أكدوا لهم أن أمريكا منحت الانقلابيين فرصة حتى مارس 2014 ليوفقوا أوضاعهم الانقلابية عبر افتعال شرعية مكتسبة، لعل هذا يتوافق مع ما أوضحناه سالفا، وأن الانقلابيين غير معنيين بالتفاوض أو الحوار، بل هو استهلاك للوقت لصرف أنظار الناس عن مخططهم الذى يرتبون له. ومن ثم فإن على أنصار الشرعية ألا ينتظروا حتى يحدث ذلك، وأن يفسدوا على الانقلابيين خطتهم، وأن يركزوا فى آلياتهم ووسائلهم لكسر الانقلاب على الشعب، والقوى السياسية الحرة، والشخصيات الوطنية المحترمة، وأن يخرجوا الانقلابيين من حساباتهم ويستبعدوا تماما فكرة قبول الانقلابيين للتفاوض حاليا، وقد أحسن التحالف صنعا حين أوضح أن بيانه ليس مبادرة للانقلابيين وإنما هو رسالة للشعب المصرى، وللقوى الوطنية لتكوين جبهة وطنية ضد الانقلاب. وعندما يحقق أنصار الشرعية نجاحا كبيرا فى جمع القوى الثورية -أفرادا وائتلافات- حول مطلب العودة إلى ما كان عليه الحال قبل 30 يونيو المشئوم، وإحداث حالة ثورية أكبر وهياج شعبى أعظم فى الشارع المصرى، ساعتها -وما ذلك على الله بعزيز ولا ببعيد- سيهرول الانقلابيون إلى التفاوض والبحث عن حل ومخرج، ولن يظلوا طويلا فى ترف الاختيار بين التفاوض أو العناد واستخدام القوة لقمع الشعب، وحينها ستكون المعادلة قد تغيرت -بإذن الله-، وسيملى الطرف الأقوى شروطه على الانقلابيين والتى سيسلمون لها مكرهين، أو يحدث الله تعالى أمرا آخر يصب فى مصلحة عودة الشرعية. ___________________________ مدير مكتب الاتحاد العالمى لعلماء المسلمين بالقاهرة