كان ينبغى أن تأتى هذه المرحلة "الملحمية" لتضع الإسلاميين أمام أنفسهم، وليروا بأعينهم حصاد مناهج التربية عندهم، وهل كانت تؤدى دورها أم كانت مجرد أوشحة تزين المجالس، أو كلمات وحكم تطلق مع كل لقاء. جاءت أيام ظنها الانقلابيون استعادة "لجمهورية الخوف"، التى لا يعلمون غيرها كمنهج لإدارة الشعوب. جاءت الملحمة فجأة، وجاءت قاسية، جاءت بالقتل والدماء والأسر والتعذيب والمطاردة والتنكيل، والاستقواء بجيش الوطن ضد العزل من أبناء الوطن!. وصاحب حفلات القتل سيمفونية من الكذابين المختالين الذين بدورهم يقتلون الحقيقة بدم بارد وفى وضح النهار وتحت سمع وبصر الجميع. وتم ضخ المليارات للإجهاز على الضحية سريعاً، وكانت "المقصلة" العسكرية تعمل بكامل طاقتها بلا توان وفى كل أرجاء الوطن، تقتل وتحرق وتدمر. هنالك تفاجأ الجميع بالصمود الأسطورى من أبناء العقيدة الصلبة، ورأينا النماذج المذهلة من أبناء الدعوة الذين خرجوا لتوهم من عام من العمل المضنى والتحديات والتشويه ومواجهات ضارية مع مخططات "المخابرات العسكرية" و"العامة" و"أمن الدولة". ومن كان يتصور أن هؤلاء الشباب سيخرجون من "معركة الحكم" المؤلمة، إلى "معركة الانقلاب" الدامية، ليقدموا معزوفة الاستشهاد، ومعها نشيدهم المتواصل "هى لله.. هى لله"، وكانت (الأخت المسلمة) تتقدم صفوف التضحيات. وفى ظل الدعاوى الزائفة ضد الإسلام والإسلاميين "بتقزيم المرأة"، وانتقاص حقوقها، ومع ردود إسلامية لاهثة يتم طمسها بآلاف الدعاوى الكاذبة، كان الدفاع بقطرات الدماء –عمليا - عن الإسلام. صاعقة - وليس خبرا - حين أعلنت منصة "رابعة" عن مهاجمة المسيرة النسائية "بالمنصورة"، ثم تتبع المعتصمون الخبر، فإذا أخبار الشهيدات المجيدات تتوالى، وكلنا كان يكذب الخبر، معقول! معقول بناتنا وزوجاتنا وأمهاتنا، يذبحن ويقتلن؟! كانت هذه هى البداية، لكننا حين سمعنا الخبر كاملاً، ورأينا كيف تصدت البنات المسالمات السلميات لجموع البلطجية المدججين بالسلاح، وحين سمعنا صوت "هالة أبو شعيشع" يعلو بالتكبير والتهليل ليُثبِّت المسيرة فى وجه تتار الأمن المصرى أحسسنا بالفخر، وقتلوا "هالة". استحقت "هالة" أن تصبح رمز ثورة مصر من الآن وإلى الأبد. وقُتلت "إحسان" الصيدلانية، أم الأبناء الأربعة، لتخلد رمز الأمومة السابحة فى دم الشهادة، لتحرر وطنها المسروق. قد كنا نتصور أن أخواتنا قد صنعوا آيات البطولة فى فترة النضال ضد حكم "مبارك" فقط، وذلك حين وقفن بقوة وراء أزواجهن وآبائهن وإخوانهن من المعتقلين والمنكل بهم والملقى بهم فى غياهب السجون والأحكام العسكرية، والمصادرات المجرمة، ورأينا نموذجا نسائيا صامدا حمى ظهر رجال الدعوة، فكُنّ سببا رئيسيا للثبات واستكمال المسيرة. ونافست الأخت إخوانها - بجوار ذلك – فى كل الميادين، فهى التى تراها داعية، وسياسية، ومتظاهرة، ومحفزة للناس على الالتفاف حول الدعوة. على حسابى "بالفيس"، كان هناك قلم ثائر فكريا، ومثقف موضوعا، ولا أعلم من هى صاحبته، وكان اسمها "طاهرة عامر" وكنت أتابعها على مدار سنوات، فتبهرنى أحيانا، وتدهشنى أحيانا، وقد تقلقنى أحيانا، ولكن الثقافة الأصيلة كانت معدنها. وبعد فض اعتصام "رابعة" فوجئت بها تكتب منشورا صغيرا فحواه: "يا إخوانى، يبدو أن زوجى استشهد ولا أعلم كيف أصل إليه"، ثم بعد ساعات: "الحمد لله عثرت على جثمان زوجى فى مسجد الإيمان دون تشويه أو تمثيل، وارتقى إلى ربه برصاصة ميرى فى الصدر"!. وبعدها بأيام قررت أن تواصل الجهاد على درب زوجها الشهيد، فرأيناها تنتفض ضد أباطيل المفتى السابق فتقول له: "إلى على جمعة، محمد وأمثاله لم يكن مغررا بهم، ولم ينزل ليموت فى سبيل الوهم والشيطان، ولم يكن متأثرا بمناهج الوهابية، ولا كان وهابيا، بل كان تلميذك يوما ما، ولم يكن خارجيا ولا مارقا ولا تكفيريا". وأريدك أن تعود إلى منشوراتها على الفيس لتعلم، وليعلم الجميع من هى المرأة المسلمة. ولم يكن غريبا على "طاهرة" أن تُرجع كل الفضل فى ثقافتها واهتماماتها الراقية إلى زوجها الشهيد الذى علمها وكان مثلا أعلى لها. إنه الشهيد العالم الشاب "محمد محمود عبد السلام ياقوت". ثم وبكل قوة تناهض الانقلاب وتعد زوجها الشهيد أمام الكافة أنها ستكمل مشروعاته الطموحة التى بدأها. هذه ابنة دعوتنا. هل رأيتم "حنان أمين" الطبيبة التى وقفت يوم فض الاعتصام تواجه الهجوم التترى المجرم، وتصر تحت وابل الرصاص والنار وقنابل الغاز أن تقوم بمهمتها فى مداواة الجرحى، وهى ترى بعينيها طائرة تحمل قناصة تضرب رصاصها مباشرة عليهم بالمستشفى. لماذا لم تهربى، لماذا لم تفكرى فى النجاة بنفسك يا "حنان"؟ "د. حنان" رأت إخوانها وقد تفجرت رءوسهم، أو انفجرت أمعاؤهم، ورأت ابن جارتها مضروبا بالرصاص، وزميلها الطبيب تصيبه الرصاصات أثناء حمل الطفل لمداواته، وثالث يريد حمل زميلها الطبيب فتصيبه الرصاصات، فيبرك الثلاثة أمام عينيها فى مشاهد كيوم القيامة. "د. حنان" حكت حكاية الضابط الذى قتل الجرحى الثلاثة أمامها ليخرجها عنوة من المستشفى الميدانى، لكنها أصرت على حماية معنى الرحمة والإنسانية الذى اختفى من "مصر" على يد المحتلين الجدد، فنالها الضرب والصفع ثم الوقوع على الأرض ثم قنابل الغاز لتجبرهم على الخروج من المستشفى، ثم إحراق المستشفى بما فيها من جرحى وشهداء. وهى ما زالت تقاوم لإنقاذ من تستطيع إنقاذه، ولم تترك مكان جهادها إلا إجبارا. وكان الأعظم فى حنان أن تتجاوز صدمة "الفض" وأهواله، ثم نراها على الشاشة تفضح البربرية الانقلابية، وتنطق بفصيح القول بالرفض والإدانة للمجرمين، وتعرى سوءاتهم، فى وقت سكتت فيه ألسنة رجال أشاوس وأسماء ملء السمع والبصر؛ لتعرِّض نفسها لبطش الاحتلال، فهل رأيتم فيها اهتزازا أو خوفا؟ "د.حنان" كانت شهادتها لتوثيق الجرائم، ولكنها وثقت - أيضا - عظمة وسمو نساء هذه الدعوة، حتى تحس وأنت تسمعها أنها هى الأخرى شهيدة، ولكن أرسلها الله لتحدثنا من مكانها بالجنة. إنها ابنة الدعوة. ثم، من أنت أيتها "الفتاة المجهولة" التى واجهت تتار الشرطة يوم "مجزرة المنصة"، ووقفت فى مواجهة الرصاص تكسرين الحجارة وتناولينها للشباب ليلقوها على المسلحين ليوقفوا رصاص الغدر، وليدافعوا عن رمز الصمود "رابعة". ماذا كان يدور فى خلدك وأنت تدافعين عن المعتصمين؟ ألم تهابى هذا "الرصاص المصبوب" من القناصة وأشاوس الداخلية والعسكر؟! سبحان الله، رقيقة الأصابع، دقيقة الملامح، بقلب أقوى الرجال. هل سمعتموها وهى تقول للشباب: أنا لن أرجع، فإذا أردتم أنتم الرجوع فعودوا. يقول لى إسلام الهلالى الذى سمعها تقول هذا: لقد كانت كلماتها تثبيتا جعلنا جميعا لا نتزحزح عن مواقعنا، ولولا هذا لدخل التتار على المعتصمين وقتلوا منهم مقتلة عظيمة. أنقذتِ بثباتك المئات، وعلمتِ الرجال معنى الرجولة. إنها ابنة الدعوة. أما أنت يا رمز الصمود، يا "أسماء"، يا من عانقت الموت فى "محمد محمود" ولما جافاكِ الموت، ذهبت إليه راضية مرضية لتهزى قلوب العظماء فى كل الأرض، وتسقطى الدموع من عيوننا المتحجرة. كم هو جميل وجهك الملائكى! إنه لم يخلق ليعيش هنا، ولكنك أتيت "أنت" و"حبيبة" من السماء لتلهمانا "وحى الصمود"، ولتغيرا طعم الموت فى حلوقنا، وما أن تذوقنا شهده، وأيقنَّا أن الشهادة حياة، وأن الموت مجرد حدث عابر، حينها انتهت مهمتكم، فصعدتم إلى المكان الأليق بكن. وفى لحظةٍ تصورنا فيها أن المحتل قد شبع من دماء الحرائر، يدق ناقوس السماء ليوقظنا، وليعلمنا أن المعركة مستمرة، فتتقدم روح طاهرة جديدة لتفتدى الأمة، تتقدم المرأة الصامدة التى كالوا لها الطعن بصدرها وظلت تعانى آثار الغدر شهرين، حتى لم يتحمل جسدها توثب روحها للقاء الحبيب، فاستلمت الملائكة الوديعة، لتعلن أن "سهام الجمل" أبت أن تنفرد الفتيات والشابات بسباق الشهادة حتى لحقتهم وهى أم الرجال، وما أصعب ما تحملت يا "سهام"، وما أعظم ما تركت فينا من إصرار وغيرة لنلحق بك!. هذه ابنة الدعوة. ابتسمى يا هالة ويا إحسان ويا طاهرة ويا حبيبة ويا أسماء وحنان وسهام و(؟؟؟). فإن ابتسامتكن تثبت قلوبنا. فإن ابتسامتكن تزلزل أعداء الوطن. ابتسامتكن تقول كلمة واحدة: لا رجوع. ابتسامتكن تنذر الطاغية: لا رجوع. ابتسامتكن تلهب قلوب الشباب: لا رجوع. ابتسامتكن قد أنهت المعركة: لا رجوع. لا رجوع.. إلا بالفتح المبين والنصر للوطن.