بينما موسى في قومه يُذكرهم بأيام الله - أي أيام نعمائه وبلائه - فسُئل: أي الناس أعلم؟. فقال: أنا أعلم!. فعتب الله عليه، إذ لم يرد العلم إليه. فأوحى الله إليه: إن عبدًا من عبادي بمجمع البحرين، - أي مكان التقاء البحرين - هو أعلم منك. قال موسى: أيْ رب، كيف لي به؟ دُلَّني عليه". [1] لقد كان موقفًا تربويًا رائعًا أن يعترف موسى عليه السلام بخطئه؛ وهو من هو، وأن يستجيب سريعًا للعتاب والمراجعة الإلهية!. ولهذا كان الموقف الراقي؛ الذي ورثه عنه فتاه؛ يوشع بن نون؛ حينما اعترف أيضًا بخطئه أمام سيده: (فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيه إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ). [الكهف 63] وكذلك كان اعتراف آدم عليه السلام وزوجه بمعصيتهما؛ وكذلك كانت أوبتهما السريعة: (قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ). [الأعراف 23] ومن هذه اللمحات من سير هؤلاء الرسل عليهم السلام؛ تصلنا رسالة اللحظة الفارقة؛ وهي أن سرعة المراجعات تعد شرطا لقبول التوبة، وشرطًا لجدية التقييم والتقويم. سمة بشرية فالخطأ ليس عيبًا! بل هو سمة بشرية! ولكن العيب هو التمادي في الخطأ، وعدم الرجوع عنه؛ والخيرية دومًا لمن أسرع فتاب وراجع وصحح: (كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ). [2] أسرع ... ولُمْ نفسك أولاً ولقد كان من التوجيهات القرآنية الرفيعة؛ أنه إذا أصاب المرء مكروه؛ فعليه أن يواجه أخطاءه، ولا يبررها، ولا يلتمس لنفسه الأعذار، ولا يهرب من المسئولية. وأول خطوة في طريق المواجهة، والمراجعات النفسية للبحث عن الأسباب؛ هو أن ينتقد ذاته؛ فيفتش عن أخطائه النفسية، وعيوبه الذاتية، قبل أن يلوم الآخرين. وهو من أبرز الدروس التربوية؛ الذي تعلمها الجيل الأول الفريد؛ من مراجعات مصيبة أحد، والعجيب أنها نزلت ودماء الشهداء لم تزل حارة تسيل على رمال أحد: (أوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). [آل عمران 165]. حماقاتٌ ارتكبتُها ومن اللمحات التربوية؛ أن تعترف - ولو سرًا - بأخطائك مع نفسك أولاً، ثم مع الآخرين!. يقول عالم العلاقات الإنسانية (ديل كارنيجي): (في أدراج مكتبي ملف خاص مكتوب عليه هذا الشعار؛ وأنا أعتبر هذا الملف بمثابة سجل واف للأخطاء والحماقات التي ارتكبتها. وعندما استخرج سجل أخطائي، وأعيد قراءة الانتقادات التي وجهتها إلى نفسي، أحس أنني قادر، مستعينا بعب الماضي، على مواجهة أقسى، وأشد المشكلات إيلامًا. لقد اعتدت فيما مضى أن ألقي على الناس مسئولية ما ألقاه من مشكلات، لكنني وقد تقدمت في السن، وازددت حنكة وتجربة؛ أدركت آخر الأمر، أنني وحدي المسئول عما أصابني من سوء، وفي ظني أن كثيرًا من الناس يدركون ما أدركت؛ كما قال (نابليون) وهو في منفاه بجزيرة (سانت هيلانه): (لا أحد سواي مسئول عن هزيمتي، لقد كنت أنا أعظم عدو لنفسي!). ويقول (والت ويتمان): (أتراك تعلمت دروس الحياة من أولئك الذين امتدحوك، وآزروك، وحنوا عليك؟!. أم تعلمتها من أولئك الذين هاجموك، وانتبذوك، وقست قلوبهم عليك؟!!). يقول (لاروشفوكو): (إن آراء أعدائنا فينا؛ أدنى إلى الصواب من آرائنا في أنفسنا). [3] كافئ أفضل المخطئين من الطريف والجديد أن هذا هو الشعار المبتكر لشركة (بروجان)؛ وهي إحدى وكالات الإعلان في (ديترويت). فقد تخسر وظيفتك وتدفع منصبك ثمنًا لأخطائك؛ لكن الأمر ليس كذلك في هذه الشركة!. فمنذ أربع عشرة سنة أدخلت (ماسي بروجان)؛ مديرة الشركة؛ نظام جائزة (أفضل أخطاء الشهر)؛ والتي من شأنها تكريم الموظفين الذين يعترفون بأخطائهم أمام زملائهم؛ ويحصل الفائز على مبلغ خمسين دولارًا؛ وذلك بعد المنافسة مع اثنين من زملائه؛ وبعد تصويت موظفي الوكالة الستين؛ في اجتماعهم الشهري؛ على أفضل الأخطاء، حتى لا يكررها غيره مستقبلاً!. فلماذا نركز على إبداعاتنا دون هفواتنا؟!. كل الناس يتعلمون من إخفاقاتهم أكثر من إنجازاتهم!. ثم إن الاعتراف بالخطأ فضيلة؛ وهذه من سمات القادة!. [4] فلماذا نخاف من أخطائنا؟!. ولماذا نتبرأ من مخطئينا؟!. ولماذا نتلكأ في مراجعاتنا؟!. قفْ الآن .. وراجع نفسك ومن أجمل اللمحات التربوية أن يحاسب المرء نفسه؛ وأن يداوم على تقييم وضعه!. لأن "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله". [5] ويروى عن ميمون بن مهران قال: (لا يكون العبد تقيًا حتى يحاسب نفسه، كما يحاسب شريكه؛ من أين مطعمه وملبسه؟!). (وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وطالبوا بالصدق في الأعمال قبل أن تطالبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا فإنه أهون عليكم في الحساب غدا وتزينوا للعرض الأكبر؛ (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ). [الحاقة 18]. وقال الحسن البصري رحمه الله: أيسر الناس حسابًا يوم القيامة؛ الذين حاسبوا أنفسهم لله عز وجل في الدنيا، فوقفوا عند همومهم وأعمالهم؛ فإن كان الدين لله؛ هموا بالله، وإن كان عليهم؛ أمسكوا وإنما يثقل الحساب على الذين أهملوا الأمور فوجدوا الله قد أحصى عليهم مثاقيل الذر؛ فقالوا : (يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا). [الكهف 49]). [6] العودة إلى الذات من أسباب الفرج وعندما تحدث ابن الجوزي رحمه الله عن التوبة واستجابة ربنا للمخطئ هو أن يكتشف ذاته ويعرف أن الخلل داخليًا وليس خارجيًا: (فإن المؤمن إذا استبطأ الفرج وأيس منه بعد كثرة دعائه وتضرعه ولم يظهر عليه أثر الإجابة؛ فرجع إلى نفسه باللائمة وقال لها: إنما أتيت من قبلك ولو كان فيك خير لأجبت. وهذا اللوم أحب إلى الله من كثير من الطاعات؛ فإنه يوجب انكسار العبد لمولاه؛ فلذلك تسرع إليه حينئذ إجابة الدعاء؛ فإنه تعالى عند المنكسرة قلوبهم من أجله). [7] لماذا يسخر أينشتين؟! والآن ... علينا أن نتذكر أن البداية في التغيير المجتمعي والتحول الحضاري الذي ننشده ونعيش له؛ هو التغيير النفسي والتصحيح الداخلي ومراجعة الذات: (إِنَّ اللّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ). [الرعد 11] والخطأ ليست نهاية العالم؛ وكما يقول (جيم كولنز) مؤلف (البناء من أجل الاستمرار): (القادة العظماء لا تهزمهم الأخطاء، بل يتغلبون على أخطائهم رغم فداحتها. فأنت لست بحاجة لأن تتخذ قرارات صائبة طيلة الوقت لكي تكون قائدًا عظيمًا. أنت تخطئ وتتعلم من أخطائك. وهناك نسبة خطأ مطلوبة في كل عملية اتخاذ للقرارات. من ينتظرون بلوغ الحالة المثالية ليتخذوا قرارات منزهة من العيوب لن يقرروا أبدًا). فإلى متى سنظل نتمسك بآليات ووسائل بل وشخصيات بعينها والتترس كالعادة بفقه الأزمة وأدبيات المحنة كمبررات تاريخية لتأجيل المراجعات، بل ونُجَرِّم من يطالب بها، ونشكك في انتمائه، ونتجاهل رأيه؟!. وإلى متى نشوه المراجعات، ونرعب البعض منها بوصمها أنها مجرد جلد للذات؟. وننسى لماذا يسخر (أينشتين) من المتراجعين عن المراجعات: (تعريفي للغباء؛ هو أن تداوم على فعل نفس الأشياء بنفس الطريقة وتتوقع أن تحصل في كل مرة على نتائج مختلفة)!!. ____________________ زميل الجمعية الكندية لطب الأطفال (CPS)، وعضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية. [1] رواه مسلم والبخاري. [2] رواه الترمذي. [3] دع القلق وابدأ الحياة: ديل كارنيجي. [4] المختار الإداري (Business Digest). [5] سنن الترمذي. [6] الياقوتة، جزء 1، صفحة 83، الفصل العاشر. [7] جامع العلوم والحكم، ابن رجب.