استغلالًا لحالة "عدم اليقين" التى نشأت أعقاب ثورة 25 يناير، فإن لاعبين سياسيين كثيرين قد انتهزوا فرصة الظرف الانتقالى بما يشمله من حالة اضطراب ذهنى لدى العامة، وغياب قبضة القانون، وتجاوزوا خطوطًا كانت حمراء، دون خوف من الحساب.. ولا حتى المساءلة. ويبدو أن حالة الهياج العصبى التى انتابت القوى العلمانية قد جعلتهم لا يحتاطون وهم يمارسون رذيلة انتهاك حرمات الوطن! وإليك نماذج مما يموج به فضاؤنا السياسى اليوم: أولًا: تشويه الوطن: فلقد استقبل مركز (csis) الأمريكى (وهو أحد مراكز التفكير المشهورة) مجموعة متباينة من ألوان الطيف السياسى المصرى لتبادل الرأى حول "الشأن المصرى"، وهذا أمر لا بأس به، وإذا بالحضور يفاجئون بهجوم شديد على "مصر"، وتحذير من نتائج التعاون بكل أشكاله مع النظام المصرى الحالى، ولم يكن هذا الفعل الشائن من الأمريكان الحاضرين، ولكن -وللأسف- من بعض المصريين الذين لم يذهبوا لجلب القناعة لدى دول العالم لمساعدة بلادهم اقتصاديا أو سياسيا.. كما يفعل كل الساسة والمثقفين فى مثل هذه اللقاءات، ولكن المفاجأة أن شخصيات من عينة "اللواء سامح سيف اليزل" و"لميس الحديدى" ورموزا أخرى يسارية وعلمانية وقبطية، كل هؤلاء قد مارسوا جريمة "تشويه الوطن"، وكأنهم يستجدون الأجنبى ليدركهم قبل أن تلتهم "القيادة الشرعية" ذلك الوطن الذى ورثوه عن "مبارك"! وإمعانًا فى اللعب فى (مناطق الخطر) فقد ذهب "سامح سيف اليزل" و"لميس" و"عادل حمودة" وآخرون إلى اجتماع سرى فى جهة غير معلومة مع آخرين، وأشرف "المركز" على هذا الاجتماع المجهول الذى أحس به الحاضرون ولم يدركوا كيف تم تنظيمه ولا ماذا دار فيه، ولماذا ذهب المشاركون فيه بعيدًا عن الأعين؟ لا سيما إذا عرف أن رجلا مثل "عادل حمودة" هو ربيب المخابرات وهو لا ينكر هذا، ويعلمه القاصى والدانى فى الدوائر السياسية. لقد هاجم السادة الحضور وطنهم، والنظام الشرعى الحاكم، ودعوا لحصاره فى وضح النهار، فما حجم الجرم والتآمر الذى سيصنعونه فى الغرف المغلقة؟ إنها جريمة جديدة تضاف إلى تيار العلمانية المتطرفة التى ترى فى الأجنبى حضنًا دافئًا بينما ترى فى أبناء الوطن شوكًا وقذى. ثانيا: استحلال الانتحال: وذلك أنه السيدين "سامح عاشور" و"ضياء رشوان" قد انتحلا كذبا وزورا صفة اتحاد (النقابات المهنية)، وعقد الاثنان مؤتمرا هزيلا يناصرون فيه القضاة والعدالة ضد الحملة عليهم، ويحذرون من مذبحة قضائية جديدة! ومعلوم للكافة أنه قد اجتمعت 16 نقابة مهنية -الشهر الماضى- وانتخبت بالإجماع رئيسًا لها هو الدكتور محمد عبد الجواد نقيب الصيادلة، وانتخبت أمينًا عامًّا هو م. محمد البنا أمين عام نقابة مهندسى الفنون التطبيقية، ثم اجتمعت قيادات النقابات لاحقًا، واعتمدت لائحة تقنن حركة "الاتحاد"، وتؤسس لوجوده بغية الاستمرار فى اتخاذ إجراءات قانونية لإعلانه الرسمى.. وإذا كان "عاشور وضياء" يعلمان ذلك جيدًا؛ لأن "نقابة المحامين" قد مُثلت فى هذه الانتخابات، و"نقابة الصحفيين" قد دعيت إليها ضمن الدعوة الموجهة لكافة النقابات، فإن الذى فعلاه هو جريمة سياسية وقانونية بكل ما تعنيه الكلمة، وهو خنجر فى قلب العدالة فى مؤتمر يعقدانه لمناصرة هذه (العدالة)؛ فقد (استحل) النقيبان انتحال صفة الاتحاد، وراهنوا على التزييف الإعلامى للحقائق، وقد ساندهم الإعلام فعلا، ولم يقم بواجبه بتمحيص الحقيقة ولا بتعقب الجريمة المرتكبة فى وضح النهار، وكان التليفزيون الرسمى أيضا وبكل قنواته قد أسهم فى هذه الجريمة! وبالطبع فلا أحد ينتظر شفافية ولا عدالة من إعلام موجه، ولكننا نلفت النظر إلى معاول الهدم الممنهجة التى تمارسها العلمانية المصرية على مدار الساعة، فى تجاوز بل طمس الخطوط الحمراء التى تعارفت جميع الأوطان على احترامها، وما ذلك إلا لحالة الفساد القيمى، والانهيار المعنوى الذى جعل المنهزمين العلمانيين يستحلون كافة المحرمات، ويستغلون كل الأسلحة ولو كانت على حساب القيم العليا للوطن. ثالثا: تسييس القضاء: حين تعلن المحامية "تهانى الجبالى" أنها صوتت فى الانتخابات لصالح "حمدين" (رفيق رحلة النضال الناصرى.. كما قالت)، ثم لصالح "شفيق" فى المرحلة الثانية، فإن القضية ليست فقط فى الجدل الذى أثاره تصريحها حول حقها كقاضية دستورية فى الإدلاء بصوتها من عدمه. لكن المشكلة الكبرى أيضًا فى اعترافها بأنها مناضلة ناصرية تنحاز إلى "أيديولوجيا" تحكم ضميرها وحركتها فى الحياة، ومن ثم يكون وجودها فى القضاء هو مجرد مرحلة من مراحل ذلك (النضال الناصرى)، وهذا لا يتصادم مع القيم القضائية فحسب، ولكنه يشكل فضيحة وجريمة مكتملة الأركان تطعن القضاء المصرى فى سويدائه؛ لأنه المؤسسة التى عاشت مترفعة عن الولوغ فى التنافس السياسى، وكانت دائمًا تعلن أنها الناطق باسم الحق المجرد، ولصالح المجموع، وطبقًا للقيم الأسمى للوطن. إذًا.. فقد تأكد للكافة أن أحكامًا مثل إسقاط مجلس الشعب، وإبطال قرار الرئيس بدعوة الناخبين لترشيح مجلس النواب، وإعادة النائب العام الفاسد إلى المنصب.. وإضراب هذه الأحكام.. كانت كلها تصب فى عالم (النضال السياسى) وجدله، وليست فى محراب القضاء وحياده وترفعه. وإذا كان البعض قد شك سلفًا، ونزه القضاء المصرى عن هذه الممارسات فإن السيدة "تهانى" قد جاءتنا بالخبر اليقين، وأزاحت الستار عن عالم (النضال السياسى) الذى يذخر به القضاء. لقد عجز القضاء المصرى بكل خبرته وشموخه أن يدين الذين ضبطهم الشعب كله متلبسين بقتل الثوار ونهب الوطن، بدعوى أن القاضى يحكم بما لديه من أوراق، وكأن التحقيق والتثبت ليس من مهمته، واختفى وراء مجموعة نصوص قضائية حقة، ولكنه أراد بها باطلا، بل رضى ضمير القضاة أن يمسحوا بثوب القضاء دماء الأبرياء من أيادى قاتليهم.. كل هذا أوجدوا له مبررات وجادلوا بالباطل ليدحضوا الحق، ونجحوا فى إثارة الشك فى نفوس العامة، لكن الله أراد لهم الفضيحة لأنهم لم يجدوا إجابة عن أسئلة بسيطة وبريئة من عينة: لماذا التستر على "الزند" والخوف من تقديمه للتحقيق؟ لماذا التستر على "عبد المجيد محمود" رغم إعادته مبالغ الرشوة للمؤسسات الصحفية؟ لماذا لم يتخذ القضاء المصرى مُمثَلا فى النائب العام السابق أى إجراءات لاستعادة الأموال المهربة طبقا لتصريحات الممثل الأوروبى؟ لماذا لم يتخذ القضاء موقفا صلبا ويرفض محاكمة "مبارك" وأعوانه وقتلة الثوار، ويتقدمون باعتذارهم إلى الشعب بدافع عدم المشاركة فى مسرحية المحاكمات الهزلية؟ وهل انتفاضة القضاة ضد سلب مزاياهم الشخصية (تخفيض السن مثلا)، وعدم اعتراضهم على المحاكمات الهزلية تعنى أن المصالح الشخصية أهم عندهم من إقرار(العدالة)؟ ثم لماذا كل هذا الفزع من "نائب عام" يلبى طموحات الشعب فى ملاحقة الفاسدين؟ هذه أسئلة احتار فيها شيوخ القضاء السبعينيون، ولو ترجل أحدهم إلى أصغر زقاق فى أصغر قرية داخل أبعد مدينة لأجابه الأطفال الرضع.. لكن لسانه هو معقود لا ينطق!! هذه -إذن- خطوط حمراء جديدة تُنتهك.. بعدما انتهكوا حرمة الدم المعصوم وجعلوه ماءً. وانتهكوا حرمة الأمن وأشاعوا الفزع بين الناس. وانتهكوا حرمة اختيار الشعب وسيادته وطعنوه فى عقله ورشده. وانتهكوا حرمة الثورة النقية البيضاء حين لوثوها باتحادهم مع منظومة الحكم البائد. وكل ما سبق (كوم).. أما (الكوم الأكبر) فهو انتهاكهم لدماء الشهداء الزكية حين وقفوا مع قضاة برءوا الذين تلوثت أياديهم بدماء هؤلاء الشهداء.. ولم يتحدوا مع الذين يصرون على (تطهير القضاء) باعتباره مطلبا ثوريا.. وشعبيا.