فى قطار العاشرة صباحًا يوم الخميس الماضى والمتوجه من الإسكندرية إلى القاهرة كان الجو هادئًا حتى ركبت مجموعة من القضاة من "طنطا"، فازدحم القطار، وبمرور "رئيس القطار" سأل القاضى الذى بجوارى عن "الاستمارة" (بديل التذكرة للقضاة) فرد بصلف: ليس معى استمارة، فرد "رئيس القطار" بثبات: إذن اقطع تذكرة، فقال القاضى بغرور: لا... واحتدمت المشكلة حتى فوجئنا "بالقاضى" يقول له: هل تتعسف معى فى استخدام الحق؟! (وهى جملة قانونية فى غير موضعها)... واستحكم الأمر بين الطرفين حتى تدخل "رئيس محكمة" يجلس خلفى مباشرة بتهدئة القاضى الشاب، فقام الأخير متثاقلًا وأخرج "الاستمارة" وسط دهشة الجميع، وهنا تصرف "رئيس القطار" بلياقة، وأنهى الأمر ثم فاجأ الجميع بأن عرف نفسه للقاضى قائلًا: أنا أخوك أشرف ماجيستير فى القانون ومسجل للدكتوراة!!.. نزل القاضى بمحطة "بنها" وبرجوع "رئيس القطار" رحب به الجميع وأنا منهم، وشكروا له موقفه الثابت المهذب، وإذا بأحد الركاب يؤيده بقوة ويقول له: أنا كنت مستعدا أن أقف معك لأقصى مدى (خاصة أن القاضى الشاب تلفظ بألفاظ معيبة بعد أن تركه رئيس القطار)... ثم أردف الراكب قائلًا: أكيد هذا القاضى عينه أبوه فى القضاء، وهنا بدأت معركة جديدة... إذ تدخل "المستشار رئيس المحكمة" الجالس خلفى، وقال له: لا القضية ليست ابن قاض أو غيره، فليس فى القضاء واسطة، لكن الأهم أن يكون من أصل طيب، فليس مقبولًا أن يكون حاصلًا على امتياز مثلا فى ليسانس الحقوق وأبوه تاجر مرتش أو مقاول سيئ السمعة.. وهنا تدخلت فسألت مستنكرًا: يعنى يا سيادة المستشار ليس هناك تعيين لأبناء القضاة فى القضاء؟ فرد بثبات: "أبدًا أبدًا هذا لا يحدث إطلاقًا.. فقلت له بحدة: يا سيدى كل مؤسسات الدولة فيها الوساطة والمحسوبية، أبناء القضاة يعينون بالقضاء، وأبناء رجال الشرطة مثلهم، وأبناء كبار ضباط الجيش ووسائطهم مثلها، وإذا كنت لا تقر بهذا فأنت تتكلم عن بلد آخر. رد بعصبية: هذا تشويه للقضاة، وأنتم تعادون القضاة لأنهم يقفون فى مواجهتكم!! فقلت: نحن مَنْ يا سيادة المستشار؟ فقال: أنتم الإخوان. فقلت: وكيف عرفت أنى من الإخوان؟ ثم يا سيادة المستشار لماذا يعادى الإخوان القضاء؟ فرد متجاهلًا السؤال: القضاة هم الذين كانوا يفرجون عنكم أيام "مبارك". فقلت: أسأل سؤالًا واحدًا.. هل يقف القضاة ضد الرئيس؟ فقال بحدة: نعم.. وهنا علت الأصوات ورأيت هجومًا قضائيًّا ضاريًا.. إذ تجمع كل القضاة الراكبين فى العربة، فكانوا حوالى عشرة قضاة، إضافة لبعض المحتقنين من "الإخوان"، وكان منهم أحد العاملين بقناة فضائية، وعميد بالجيش، وآخرون.. ثم حدث الآتى: قاضى (1) تحدث بحدة شديدة وسبَّنى فى دينى، باعتبارى نموذجا سيئا للإسلام.. هكذا. فقلت له: إن كلام الرسول -صلى الله عليه وسلم- لك ولى ولنا جميعًا أليس كذلك؟ أم هو لى فقط لمجرد أنى بلحية؟ ثم إنى أتحدث فى قضية عامة وأنت لم تسمعنا، وكل ما تفعله هو سبى فلتدخل فى القضية أو لتصمت. تدخل قاض ثان وقال: ولكنك تتهم القضاء بالفساد، "ولم أكن قد نطقت بهذه الكلمة ولكن يكاد المريب أن يقول خذونى". فقلت له: إن كل مؤسسات الدولة قد طالها الفساد، ولو أنكرت أن القضاء قد طاله الفساد فأنت تغمض عينيك "وكانت هذه العبارة بمثابة اللغم الذى تفجر فيهم جميعًا، فأصبحوا يكلموننى فى لسان واحد، وأنا أرد على كل واحد دون كلل ولا ملل"... ثم تدخل "رئيس المحكمة" قائلًا: وبيقولوا نازلين بكرة لتطهير القضاء، القضاء هو أكبر حصن لهذا البلد.. وهم يريدون هدمه. فقلت له: لا.. بل نحن نريد تطهيره. رد بغضب: إياك أن تقول كلمة تطهير هذه، والله أنزل أعمل لك مذكرة دلوقتى؟! فقلت مصرًّا: بل يريد تطهيرًا.. ويكفينا "عبد المجيد محمود" أليس هذا قاضيًا. فتدخل قاض ثالث: وقال دعنا من الأشخاص. فقال رئيس المحكمة: أنت تتكلم عن محاكمة "مبارك"، وأنا أقول لك كقاض جنائى: إن "مبارك" سيخرج براءة.. فقلت: لأن "عبد المجيد محمود" طبخها له هكذا.. إذن وجب التطهير. فغضب حتى خاف الجميع عليه: وقال بل أنتم الفاسدون فى كل شىء. وهنا تدخل رجل ضخم الجثة يتحدث بنعومة: قائلًا يا سيادة المستشار أنا أعمل فى قناة فضائية، وكلهم (أى الإخوان) يأتون ويقبضون منى.. وكلهم كاذبون. فقلت له: فى أى قناة تعمل؟ فقال: لن أقول لك. فتدخل المستشار: لماذا تريد أن تعرف؟ هل تريد أن تلاحقه؟ فقلت له: وهل أنا الذى ألاحق الناس بالأحكام يا سيادة المستشار؟! وهنا تدخل قاض رابع ورجانى الهدوء، ثم بدأ يدافع عن القضاء باعتباره حصنا حصينًا، "وبجواره القاضى الذى ظل يشتمنى طيلة الوقت، وهو الذى كان يذكرنى بأخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم". خرج "موظف دريم" من المؤتمر!! ثم عاد فجأة، وقال: أنا من "دريم". فقلت له: أى تعمل عند "أحمد بهجت" الذى سرق "مصر".. إذن عادى جدًّا أن تعادى الرئاسة والإخوان لأنهم يواجهون الفساد، فظل يتكلم متقصِّعًا حتى نظرت له بحدة وقلت له: اخرج على جنب حتى نستكمل الكلام مع الأساتذة. وهنا تدخل قاض خامس قال لى: أنت تعمم، وتقول القضاة يعينون أبناءهم، وأنا أبى ليس قاضيًا. فقلت له: أنت محترم يا سيدى ما المشكلة؟ لكن هل تنكر أن القضاة يعينون أبناءهم وأن هذا فساد غير مقبول؟.. سكت ولم يتكلم. وهل تنكر أن "عبد المجيد محمود" أضاع دماء الشهداء وطبخ قضية مبارك؟ فتململ ورد بفتور وضعف: أنا لا أعرف. فقلت له: بل تعرف، وتريدنا أن نغمض أعيننا فى قضية يراها الشعب كله ويشهد عليها. فتدخل المستشار: وقال أنت تدافع عن "رئيس" لم يأخذ قرارًا واحدًا سليمًا. ثم سألنى: اذكر لى قرارًا واحدًا. فقلت له: اذكر لى أنت قرارًا خاطئًا. فقال بسرعة: الإعلان الدستورى الذى حصن فيه نفسه، وجعل من نفسه سلطة فوق الجميع. فقلت له: هذا أفضل قرارات مرسى. فتدخل وسألنى: لماذا؟ فقلت له: لأن الجميع يعرف أن "المحكمة الدستورية" كانت تتربص بالرئيس وتتآمر عليه، وكانت تريد هدم كل المؤسسات التى بنتها الثورة، ومجلس الشعب أكبر دليل. فسكت مصعوقًا.. ثم فكر وقال: هو فيه واحد فى انتخابات الرئاسة يعلن أنه هو الرئيس فإذا خرجت النتيجة خلاف ذلك أصبحت مذابح؟ فقلت له بصوت عال يرتفع عن صوته: هذا كلام فى السياسة وليس فى القانون، فقاطعنى قائلا: وأنا أتكلم ولا أخاف إلا الله، فقلت له: يا سيدى الرجولة كانت أيام "مبارك" أما أن تتكلم فى عهد رئيس لا يعتقل ولا يعزل فليست بشىء ولكن نعود لموضوعنا، فالذى فعله "مرسى" أنه لم يعلن نفسه رئيسًا بقوة القانون ولكن بحساب الأصوات من حملته الانتخابية، وطبقا لمحاضر الفرز الموقعة من القضاة، أم أن القضاة هنا ليسوا محل ثقتك؟.. ثم.. قد فعل هذا كثير جدًّا من الرؤساء ورؤساء الوزارات فى أوروبا وأمريكا، وذكرت له أمثلة كثيرة على ذلك فقال: وأنا مالى بكل هؤلاء.. ثم أردف: وأيضًا أتى بشوية شباب سموا أنفسهم "قضاة من أجل مصر" ووقفوا بجانبه ليعلن النتيجة.. فقلت له: لم يقفوا بجانبه، وهذه واقعة مغلوطة لا يصح لمن فى مكانتك أن ينشرها، فأصر، فأقسمت له على خطئها أمام الناس كلها فتصاغر جميع القضاة الواقفين حولى محرجين من الأكذوبة.. ثم سألته مفاجئًا إياه: يا سيدى أنت الآن وصفت "قضاة من أجل مصر" بالفساد لمجرد أنهم يخالفونك فى الرأى.. أليس هذا اعترافًا بوجود فساد فى القضاء؟.. فلنطهر القضاء من هؤلاء..!! وهنا ثارت ثائرته وجرى عليه الجميع وتدخلوا لكى ينهوا حوار المعركة، ولكن تدخل "موظف دريم" وقال: كفاية عليهم دستور "أم أيمن". فقلت للقضاة: أنتم الآن تقبلون سبًّا فى قامة قضائية أخرى.. فاندهشوا وتساءلوا صامتين.. فقلت لهم: أليس "المستشار حسام الغريانى" هذا قاضيًا يستحق أن تدافعوا عنه؟ ألم يكن هو رئيس اللجنة التأسيسية لصياغة الدستور، أم أنه يخالفكم الرأى ولا يستحق هذا الدفاع الحار منكم؟ ثم أليس "أم أيمن" أفضل من "المستشارة تهانى"؟! فانبرى المستشار مدافعًا وقائلًا: "المستشارة تهانى الجبالى" هذه هى أفضل وأطهر وأعظم امرأة فى مصر. وهنا قلت له: هكذا تظهر الحقائق يا سيادة المستشار، وقطار التطهير سيظل سائرًا فى طريقه ولن يلتفت، وطالما هذا عنوانك فقد أكدت لى حجم التطهير الذى يحتاج إليه القضاء. قام القضاة العشرة ومعهم المستشار بعيدًا عنى، ثم فوجئت "بعميد الجيش" الذى كان يهاجمنى بألفاظ غير مفهومة يجلس بجوارى، ويقول لى: قولوا لمرسى يضرب الفاسدين كلهم بالنار.. فتعجبت من تبدل موقفه، وقلت له: ألا تجد حلًّا آخر؟ قال: لا.. قلت له: إذا كانت التحديات أمام "الرئيس" لا تحل إلا بضرب النار كما ترى أنت فهى إذن مشاكل صعبة تستدعى أن نعذر "مرسى".. فقال: نعم.. فقلت: ونؤازره؟.. قال: نعم؛ فكانت هذه بداية البشائر فى الحوار الصاخب. ثم فوجئت بشاب يجلس بالمقعد الذى يتقدمنى؛ وكان يريد إنهاء الحوار طيلة الوقت بغضب، ولكنه فاجأنى وقال لى: أنا محام حاصل على جيد جدًّا ولم أعين بالنيابة وعينوا زميل دفعتى الحاصل على مقبول لأن أباه قاض.. فأدهشت وقلت له: لماذا لم تتدخل فى الحوار لتحسمه؟ أنا لن أسامحك على هذا السكوت أمام الله. فقال: سامحنى.. ثم وعدنى أنه لن يسكت بعد الآن.. فكانت البشرى الثانية.. ونزلت من القطار وبينما أهمّ بالخروج من المحطة إذا برجل يجرى ورائى وكان يحضر المعركة مستنكرًا ما أقوله وأفعله مع السادة القضاة.. ففوجئت به يمسك بذراعى وقال لى: يا أستاذ يا أستاذ.. أريد أن أقول لك كلمة واحدة (ربنا يحميك وينصر مرسى والإخوان).