تعد قضية التواصى من أهم قضايا العمل الإسلامى، وأكثرها حساسية، فأهميتها مستمدة من مشروعيتها {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ}، ومن منزلتها أنها "حجر الزاوية" فى العمل الإسلامى فمتى فُعِّل التواصى "نما العمل" و"أثمر". والعكس صحيح. كما أن حساسيتها مستمدة من كونها مرتبطة بمختلف عناصر العمل ودوائره من القيادة والجنود والسياسات والآليات، ولذا فإن حاجتنا إلى "فقه التواصى" غاية فى الأهمية لإثراء العمل. نريد أن نعرف أولًا كيف يوصى بعضنا بعضًا بغض النظر عن موقع كل منا فى منظومة العمل الدعوى؟ ومتى يكون التواصى "واجبًا"؟ وكيف يكون "سليمًا"؟ وما الأسلوب الأمثل و"الوقت المناسب" له؟ وما مدى تأثيره سلبًا أو إيجابًا على العمل فضلًا عن إطار العمل المشترك؟ فالتواصى فى الإسلام ليس من نافلة القول، ولكنه من أهم عناصر العمل شرعيًّا ودعويًّا وحركيًّا، روى ابن ماجه وابن حبان فى صحيحه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قعد على المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال: ((يا أيها الناس، إن الله يقول لكم: مُروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا فلا أجيب لكم، وتسألونى فلا أعطيكم، وتستنصرونى فلا أنصركم)) فما زاد عليهن حتى نزل. ودعويًّا، حرص الإسلام على إيجابية الفرد أيًا كان موقعه، فعليه أن يعمل ويَنْصح ويُنصح، وأن يبدى رأيه لما فيه الخير: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}. فالتواصى ضرورة، وواجب دعوى على المسلم، فعليه أن يوصى، وأن يقبل بالتواصى وهذه قاعدة عظيمة، إذ لا يقتصر التواصى على فئة دون أخرى. فلا أحد أكبر من الوصية ولا أحد أقل منها. ونماء أى دعوة وازدهارها بل بقاؤها مرهون بعوامل عدة من أهمها التواصى، فمتى وُضع التواصى فى دائرته السليمة، ولم يُؤثم، ويُنظر له على أنه نوع من الخروج على النظم السائدة، وأخذ مأخذ الجد، ازدهر العمل وأتى أطيب الثمار، واستعصى على الاقتلاع. فعلى القيادة الواعية فى أى عمل دعوى ضرورة تقبل التواصى بلغة القرآن أو النقد بلغة العصر كما عليها وضعه موضع الاهتمام وتقديره وعدم تسفيه الآراء المخالفة مهما كانت، فقبول الرأى الآخر واحترامه وإن اختلف معه من أهم عوامل استقرار العمل ونمائه، فقد يكون فيه رؤى غائبة عن القائم على رأس العمل أو استنارة لقضية ما، فليس كل نقد ضارًّا ومؤثمًا، ففى سماع الرأى الآخر واحتوائه وأخذ ما فيه من خير أهمية ونفع لكل مسلم. وعدم سماع الرأى الآخر وقبول النافع منه هو نوع من أنواع الحجر على الرأى، وهذا معناه قسوة القلب، وهو يؤدى بدوره إلى ضلال العقل، وإذا ضل الأخير فى المنظومة الإدراكية فالله وحده يعلم مدى ما قد ينجم عنه من شطط وانحراف. ومن ثم فإن ضرورة التواصى لازمة لكل فرد بأن يقوم بدوره بذاتية وبفاعلية من منطلق المرجعية الشرعية والدعوية لذلك، وعلى القيادة الدعوية الواعية تفعيل التواصى والنصح والنقد والمعارضة البناءة والاستفادة من كل الطاقات الكامنة داخل العمل الدعوى، وألا تحجر على أحد مهما كان رأيه، وأن تضع الأطر المنظمة لذلك، وليكن شعارها: "لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها". فالقيادة الواعية هى التى تنزل التواصى منزلته، وتعمل على ترسيخه فى نفوس الجنود وتربيهم عليه. إن التواصل بين القيادة والجنود هو بمنزلة العصب للجسم إذا توقف أصيب الجسم بالشلل. للتواصى شروط عدة: أولًا: صلاح النية وسلامة الصدر: فعلى كل من الموِصى والموصَى أن يتحليا بهما لإحسان الإرسال والاستقبال، وأن يكون النُّصح خالصًا لله وحده دون أى غرض دنيوى، قال تعالى: "فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا"؛ كما يجب علينا تلقيه بسلامة صدر ودون حساسية وأن تحمل الأمور على معانيها الحسنة. ثانيًا: تحرى الصدق: على من يقوم بالنصح تحرى معانى صدق النية كافة، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((كبرت خيانة أن تحدث أخًا لك حديثًا هو لك مصدق وأنت له كاذب)). وإذا كان الصدق واجبًا فى حياة المسلم كلها، فإنه أوجب فى حالة النصح والتواصى لما فيه من خير كبير فى حالة الصحة، وفساد كبير فى حالة الكذب والغش؛ إذ سيكون ضربًا من الخيانة أعاذنا الله منها. ثالثًا: سلامة الأسلوب: يقول بعض السلف "أدِّ النصيحة على أكمل وجه وتقبلها على أى وجه" فلنتخير الأسلوب الأمثل للنصيحة، ولتكن على انفراد ولنؤدها بخفض جناح وبلا استعلاء، ولتكن برفق ولين جانب، قال تعالى: "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ". رابعًا: الموضوعية: لا بد أن نكون موضوعيين فى تواصينا، لا نكبّر الصغير ولا نصغّر الكبير، ونقدر المسألة بقدرها، ونبتعد عن التطرف والغلو فى العرض والرد فى الوقت ذاته، وليكن إمامنا قول الله تعالى: "وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ". خامسًا: حُسن تقبل النصح، فما دامت المسألة تدور فى إطار شرعى، وابتغاء مرضاة الله فلنقبلها برحابة صدر ولنتمثل قول سيدنا عمر رضى الله عنه: "أحب الناس إلىّ من أهدى إلىّ عيبى"، وقول الإمام الشافعى: "ما ناظرت أحدًا قط فأحببت أن يخطئ، وما كلمت أحدًا قط وأنا أبالى أن يظهر الله الحق على لسانى أو على لسانه، وما أوردت الحق والحجة على أحد فقبلها منى إلا وهبتُه واعتقدت محبته، ولا كابرنى أحد على حق إلا سقط من عينى ورفضته، ووددت لو انتفع الناس بعلمى دون أن ينسب إلىّ منه شىء". نتائج التواصى: إذا أُدى التواصى بمفهومه الصحيح وشروطه السابقة فسوف يحقق أطيب النتائج ومنها: 1- إثراء العمل وتحقيق أهدافه: فالعمل المميز بروح التواصى قولًا وعملًا هو الأقرب لتحقيق أهدافه ولنموه؛ لأن جميع الأفراد فى المجال الدعوى على قلب رجل واحد وليست بينهم حواجز لا مادية ولا نفسية، فروح الشفافية سائدة بينهم والصراحة طبعهم والوضوح منهجهم، لهذا فهم الأقرب لتحقيق الأهداف. 2- وضوح الرؤية أمام القيادة: فالقيادة ستكون مبصرة بكل ما يدور داخليًّا وخارجيًّا، لأن كل فرد يؤدى دوره بسلامة صدر وطمأنينة ويعمل لوضع خبراته وآرائه تحت تصرف قيادته وإمدادها بكل ما لديه ليساعدها فى اتخاذ القرار السليم المناسب. 3- احتواء الخلاف: إذ كيف يتضخم وينمو خلاف بينما روح التفاهم والتواصى بالحق والصبر هى السائدة، والأمور فى غاية من الوضوح والشفافية، ولا يُحجر على رأى، والصغير يحترم الكبير والكبير يرحم الصغير. فإذا ظهرت أى بوادر لمشكلة فستكون النهاية الحتمية لها هى وأدها فى مهدها من كل الأطراف. 4- تعزيز روح الانتماء: فإذا كان كل فرد يعمل ابتغاء مرضاة الله ولا فرق بينه وبين القيادة فى النصح والتواصى، ويستطيع أن يقول ما فى نفسه دون تردد متقيًا الله فيما يقول، فإنه سيشعر بأنه المسئول عن العمل، وهنا ستبرز المسئولية الفردية الناجمة عن تعزيز روح الانتماء لدى الفرد لإحساسه بمسئوليته، والقيادة الواعية هى التى تنمى روح الانتماء لدى أفرادها ولا تضع بينها وبين القاعدة حواجز تحت أى مسميات. 5- نماء روح الأخوة: عندما يلتحم الإطار الدعوى قيادةً وقاعدةً بفعل التواصى، ستنمو روح الأخوة الحقة، وسيعمل الجميع على رفع مستوى العمل، ومستوى الأفراد الدعاة، وسيكون الجميع على قلب رجل واحد، وسيكون كل فرد بمنزلة المرآة التى يرى الآخرون فيها أنفسهم، وسيشعر كل فرد بمدى حبهم له قاعدة وقيادة مما يؤثر إيجابيًّا على العمل الدعوى فى جميع مستوياته.