"لا".. كلمة شديدة على النفس، فلا أحد يحب أن يقابل مطلبه بالرفض، وكلنا يتمنى أن يقال لنا فى كل وقت وحين "لبيك".. وبين السعى فى حاجة الناس وتلبية مطالبهم، فهناك أناسٌ يستحيون من قول "لا"، وفى ظنهم أن هذا سيجمع من حولهم الأصدقاء، ويجعلهم محبوبين أكثر، ولكن تأتى النتيجة عكسية، فإسرافهم فى قول "نعم" يحول حياتهم إلى فوضى، والأولويات مبعثرة، وفوق هذا لا يستطيعون أن ينفذوا وعودهم ويلبوا مطالب قد وعدوا بالقيام بها، مما يسخط الآخرين عليهم. شخصيتى اجتماعية كثير من الأشخاص الذين لديهم مشكلة مع قول كلمة "لا" هم فى الواقع لا يستطيعون تقبل فكرة المواجهة، أو أنهم يريدون فقط أن يتجنبوا التوتر والقلق الذى يقترن بفكرة الرفض. يقول محمد محمود -30 عاما-: "خبرتى فى الحياة بسيطة، بمعنى أننى أخجل من قول "لا" حتى ولو على حساب راحتى، ولا أحجب عن أى إنسان أمرا إذا كنت قادرا عليه.. أحد أصدقائى قال لى فى مرة بأننى أشبه الإسفنج، أى إنسان يجلس عليه يشعر بالراحة، وفى وظيفتى يحرص الناس على مصادقتى للانتفاع منى". بينما هبة إبراهيم تقول: "أنا فى العشرينيات، من عمرى طيبة، وأحب الخير للجميع، وأحسن الظن كثيرا بالآخرين، وبسبب هذه الشخصية لا أعرف قول "لا" لأى إنسان، فكل من يطلب منى معونة فى أى أمر أكون المغيثة له، وكنت سعيدة لعمل الخير؛ لكننى اليوم صرت أغضب، لأن الجميع لا يكف عن الطلبات، وأحيانا أقوم بالأمر مكرهة وعلى حساب حياتى". لماذا نقول "نعم"؟ فى هذا الصدد يوضح محمد السقا -خبير التنمية البشرية-: "كثيرا ما يقول معظم الناس كلمة "نعم" أسرع بكثير من قول كلمة "لا"؛ خوفا من رد الفعل الذى سيقابله به الطرف الآخر، فهى مهارة ليست سهلة، فيلجأ الناس لقول "نعم" نتيجة الحياء غير المحمود والحرج، ورغبتنا فى أن نكسب حب واحترام الآخرين". ويرجع السبب وراء اندفاعنا فى قول "نعم" دائما -كما يوضح السقا- إلى سببين: أولاً لا يمتلك صاحب (نعم) خطة حياتية؛ فيقول أحد الحكماء: "إذا لم تمتلك خطة لحياتك فأنت جزء من خطط الآخرين، فعندما يطلب منى شخص أن أذهب معه مشوارا وأقابله بالموافقة دون تردد، فهذا نتيجة أنى أحمل إناء فارغًا؛ أى أحد يضع فيه ما يشاء، ولأنه عادة شخص اجتماعى، فهو لا يريد أن يقول "لا" لأحد؛ لأنه يستمتع بقول "نعم"، ويكون هذا على حساب طموحه؛ لأن قول "نعم" دائما تدمر كل اهتماماته وحياته". أما السبب الثانى فيعتمد على الموازنة فى الأولويات، فإذا صادف أن الأمر الذى أقوم به أقل أهمية من الخدمة التى أقدمها للشخص، فيمكن أن أترك ما عندى وأسعى فى مصلحته، ولكن إذا كان العكس فهنا المشكلة". ويضيف السقا أن الإنسان الذى يذوب فى حياة الآخرين يعانى من أضرار وصراعات نفسية، قائلا: "إحساسه النفسى بالصراع ما بين الشخصية التى تريد أن تخدم الآخرين والشخصية التى تشعر بأنها مستغلة دائما تعطى ولا تأخذ، ومع الوقت سيشعر الإنسان أنه ضعيف الشخصية مسلوب الإرادة، وكلما يحاول إسعاد وإرضاء الآخرين فإنه يصَاب بمزيد من الضغط والتوتر؛ فإرضاء الناس غاية لا تدرك، فاجعل همك إرضاء ربك. ويقول أحد السلف الصالح (لو أطعت المساكين فى مالى لصرت منهم)، وهذا فى المال فما بالكم فى الوقت، فلو أطاع المرء الناس فى وقته لصار دون وقت ولا طموح ولا هدف". الخوف من الوحدة أما عن لماذا يتعين علينا قول "لا" بفاعلية فتقول أميرة بدران -مستشارة نفسية واجتماعية-: "حياتنا هى البروفة الأولى لنا فى اكتساب مهارات تجعلنا نتواصل بشكل صحى دون تفريط ولا إفراط فى حقنا المشروع فى قول "لا"، ويبدأ ذلك من المهد، فحين نعلم الطفل بأنه ليس كل ما يطلبه سيستجاب له، وأن هناك مهارة مهمة فى حياتنا اسمها مهارة "تأجيل الإشباع" هو ما يمكننا من أن نرفض ما لا نهضمه، وننتقد بلطف ما لا يعجبنا، فنرسخ ثقتنا فى أنفسنا وما يأتى من ورائها من إنجازات ونجاحات. وتضيف بدران: "عدم قول "لا" قد يشير إلى اهتزاز شديد بالثقة بالنفس ورغبة غير ظاهرة بالشعور بالأمان والاهتمام والرعاية من خلال حب الآخرين، وتقبلهم لنا، فنسعى دائما وراء هدف غير منطقى اسمه "حب الناس جميعًا"، وهو هدف لم يحققه ولن يحققه بشر، ولكنه يأخذ اسم شيك مثل الخير، البر، الشخص الخدوم.. إلخ، لنبرره بداخلنا". وتتابع: "السبب الحقيقى فى عدم قول "لا" هو أننا نريد أن نخفى مخاوف الفقد، وعدم الرضا من الآخرين فيختل توازننا، ويكون السبب الرئيسى فى هذا هو طريقة التربية من الصغر، التى رسخت بداخل الطفل أنه غير مرغوب فيه، أو أنه غير متقبل ومحبوب من الآخرين". مهارات قول "لا" وتكمل المستشارة النفسية أميرة بدران: "قول "لا" يتطلب شجاعة وقدرا كبيرا من الممارسة للنطق بها، ولكن لا بد أن يكون قولها بلباقة وذوق". وأوضحت أن اختيار الكلمات المناسبة والدالة فى نفس الوقت مهم جدا، فالمقدمة التى تحمل الإيجابيات أولاً ثم الحديث عن السلبيات، واستبدال كلمات مكان كلمات مثل (لماذا لا نجرب كذا فقد استخدمه فى كذا وحقق كثيرا من الهدف)، أو(هل جربت كذا؟). وتضيف: "معرفة مفتاح الشخصية يساعدنا كثيرًا فى الإقناع، فالشخصية العقلانية مفتاحها الحلول العملية والأرقام والإحصاءات، الشخصية البصرية تقتنع بالصور والمناظر، الشخصية الحسية تحتاج إلى التعامل مع الماديات، وهكذا الشخصية السمعية، ومفتاح كل شخصية هو الذى يبدل رأيها دون تصادم"، وكذلك استخدام لغة الجسد فى التعبير دون كلام، وكذلك تعلم فن التفاوض، والاسترضاء، كلها تساعد على تأكيد ذواتنا دون تصادم مع الآخرين، بالإضافة إلى البعد عن اللوم والنبرة العالية، أو الصمت السلبى، أو العصبية فكلها تؤدى إلى مشكلات".