لا شك أن الزخم والازدهار الذى وجده فن الأفلام الوثائقية مواكبا ربيع الثورات العربية، يطرح العديد من علامات الاستفهام حول سر ذلك النجاح والإقبال اللافت لدى الجمهور، ومن ثم لدى صناع هذا الفن؛ خاصة أن بعضهم لم يكن ينتمى للوسط الفنى ولم يقم بدراسة الفن السينمائى، خاصة أن هذه الأفلام يكون القصة والسيناريو فيها للواقع وأبطالها هم الحقيقة فى الماضى والحاضر والمستقبل. وهنا تأتى الاجابة من خلال هذا الفيلم الوثائقى الفريد الذى قدم تحت عنوان "الوثائقيات.. فن رصد الواقع" ويؤكد أن الأفلام التسجيلية الوثائقية اشتهرت وانتشرت، لما لها من دور مهم فى رصد الواقع، ونشر المعرفة، بأسلوب عرض شيق. حيث اعتمد الفيلم على عرض تجارب مجموعة من أشهر مخرجى الوثائقيات فى العالم تحدثوا فيه عن طرق وأساليب نقل الواقع من خلال الأفلام التسجيلية وكذلك أساليب وتقنيات إخراج وتصوير الأفلام الوثائقية. حيث قال الأب الروحى للسينما الوثائقية "جون جريرسون": "إن الفيلم الوثائقى معالجة الأحداث الواقعية الجارية بأسلوب الإبداع الفنى". وبدأ كل مخرج فى قص تجربته، فقالت واحدة: كنت أعمل طاهية فى أحد الفنادق ولم يخطر فى بالى ذات يوم أن أعمل بالفن، وقال آخر: كنت أعمل سائق تاكسى وكنت شغوفا بمشاهدة الأفلام السينمائية غير عابئ بطريقة صنعها . بينما قالت ثالثة عندما بلغت السادسة عشرة من عمرى كنت أشعر أننى أضيع وقتى فى الكتابة ولم متفائلة بالقدر الذى كان يصور لى أننى سأنجح فى أن يصل صوتى إلى كل هذه الجماهير، وقال رابع لهذا السبب عملت كمحرر صحفى فى البداية؛ لأننى كنت أحب هذه المهنة، وقالت أخرى كانت التجربة الأولى لى فى تسجيل الأصوات . ويشير المخرجون المشاركون فى الفيلم إلى أن الخطوة الأولى يجب أن تكون فى قمة التركيز حتى تحصل على شىء يمكن نقلى على الشاشة، وقد رصد الفيلم تجارب المخرجين فى أصعب مراحل التصوير؛ فمنهم من يقوم بالتصوير فى مقالب القمامة ومنهم من يقوم بالتصوير فى ظل أعنف لحظات المد الثورى التى تتميز بالعنف والتحفز وسوء التفاهم، وهو ما يضع المصورين والمخرجين فى مواقف محرجة إن لم تكن تتسبب فى الأذى المادى لهم . كما حدث مع مخرجة لم يرد اسمها قالت: إن حوالى 300 شخص التفوا حولنا محاولين منعنا من التصوير وقاموا بسكب الجاز والبنزين علينا وهو ما أدى إلى إصابة أحد بالاحتراق لولا أن نجحنا فى إلقائه خلف الجدار الذى كنا نصور أمامه وهو ما أدى إلى سقوطه فى مقلب قمامة . فى حين قال المخرج بول كوان: ذات مرة قال كوفى عنان لا ترغب النحلات العاملات فى معرفة شىء عنى، وكنا نقوم بالتصوير فى الكونجو وظللنا نحاول لمدة عام كامل مع المواطنين هناك حتى استطعنا أن نقنع سيدة كانت تقول إن تصويرنا لفيلم فى الكونجو هو أمر مستحيل لتكون هذه السيدة هى الفيلم ودليل الفيلم فى ظل هذه المنظومة المعقدة والمستعصية على أى وافد خارجى . وقال ميشال برولت: يجب أن تعلم متى يبدأ التصوير، وأن تفهم لغة الناس، وكيف يتبادلون الحديث؛ لأن كل فرد له طريقة تعبير فريدة، وليس من المهم فهمها وإنما المهم تسجيلها من خلال الكاميرا حتى وإن لم تفهمها، وقال راكيش شارما إننى لا أحب أن ألتقى الناس قبل أن أصورهم؛ حتى إننى لا أحب التنظيم والترتيب وأذهب إلى المنطقة مباشرة لأصطدم بالناس ولذا لا أستعمل معدات التصوير والإضاءة واكتفى بكاميرا صغيرة محمولة على الكتف فقط . أما دنس برانت فتحدث عن أهمية أن تكون اللقطات عفوية ومعبرة عن مضمون الفيلم فقال –بالتوازى مع عرض لقطات معبرة- من السهل أن تقف أمام أحدهم تتبادلان النظرات حتى لو كان غير مدرك لما تفعله إلا بعد أن يظهر الإطار كله ليفهم هذا الشخص بعد ذلك ما كان يحدث، وحين يكون المشهد طويلا يكون أكثر إرهاقا ويلزم مزيدا من الثبات والدقة . بينما قالت المخرجة كيم لونجينوتو: الكاميرا فى الفيلم الوثائقى أشبه براقصة الباليه تقترب من الجميع وتغازلهم ولكن أحدا لا ينال ما يريده منها سوى الذى تريده هى، وإن أمتع شىء فى الفيلم هو أن تمشى وكأنك تسعى وراء نهر لا نهاية له وهو ما ينتج عنه أن تكون فى مكان ما وتقوم بتصوير أشياء أو لقطات تكتشف أهميتها فيما بعد . وقالت المخرجة مولى دينين: يجب أن تكون متنبها دائما إلى عدم التدخل فى الحركة بحيث لا يرتطم جسدك بالباب مثلا أو بأى متاع من اللوكيشن أو تمنع أحدا من الخروج من المشهد إذا انتهى دوره؛ ولذا فإننى أحب أن أعمل بمفردى دون حوار مع أحد، وقالت المخرجة جينيفر فوكس: إن الشعور بأنك جزء من المشهد لهو السر الذى لا يبوح به المصورون، وهو شىء مشوق جدا فسعادتهم لا توصف حين انتهاء التصوير . بينما قال المخرج جوان تشرشل: كلما كان فريق العمل صغيرا كان إيقاع العمل أسرع، والنتيجة أفضل، ويجب على المخرج ألا يقتصر دوره على أن يأمر وينهى فقط، وإنما يتابع كل كبيرة وصغيرة ويضبط إيقاع هندسة الصوت. وقال باتريستيو جوزمان: ليس هناك من أن تكون على اتفاق مع المصور ومهندس الصوت على أن تكونوا متفقين عن طريق حبل خفى، وأضاف لا أعتقد أن الطريقة التى يتخذها المخرجون السنمائيون نموذجا لهم بالاعتماد على اللقطات الواسعة ثم القريبة ثم السريعة، تعد هى المثلى؛ فأنا بوصفى مشاهدا أحب أن أشاهد الفيلم كأنى جزء منه كما حدث مع فيلم "الباعة". فى حين عرض المخرج كيفين ماكدونالد لتجربته فى إخراج كتاب "ملامسة الفراغ" الذى يعتمد على تجربة رجلين فى تسلق جبال الجليد، قائلا: اعتقد البعض أنها قصة خرافية وعجزوا عن تجسيدها إلا أننى صممت على إخراجها بالدمج بين عناصر الدراما والوثائقيات التى تعتمد على السرد والتحدث من خلال المصادر . وقال المخرج إيرول موريس: إن إعادة التمثيل لا تعنى إعادة تمثيل أى شىء.. إنها موجودة لتجعلك تفكر فى الواقع وما تعتبره واقعيا وما ندعى أنه واقعى . هذا الفيلم الذى بثته قناة الجزيرة الوثائقية يعتبر فى حد ذاته "نواة" وإضافة مهمة لكل الشباب الذى يرغب فى خوض تجربة صناعة أحد الأفلام الوثائقية أو من يسعى إلى زيادة خبرته فى هذا المجال المهم، الذى صار يجذب قطاعا واسعا من الجمهور، فضلا عما تضمنه الفيلم من متعة بصرية حقيقية وتدفق معلوماتى واضح وتطابق كبير بين منطوق الفيلم والصورة السينمائية على الشاشة.